لا يزال النزيف الفلسطيني مستمرًا، ولا تزال أطراف التفاوض تُمعن في تجويعهم، وقتلهم، ودفنهم تحت الركام الذي بات وجه غزة الوحيد.. وفيما تواصل آلة القتل الإسرائيلية طحن أجساد الأبرياء، تُخاض معركة أخرى صامتة.. طويلة النفس.. وواسعة التأثير: إنها معركة الرأي العام العالمي، التي يبدو أن إسرائيل بدأت تخسرها بصخب مدوٍّ، لا تُخفيه محاولات التجميل ولا بيانات التبرير.
استطلاع جديد أجراه مركز “بيو للأبحاث” في 24 دولة، يكشف أن 62 % من المشاركين لديهم صورة سلبية عن إسرائيل، مقابل 29 % فقط يرونها بإيجابية.. هذه الأرقام تعطي مؤشرًا صارخًا على حجم التغيّر في المزاج الدولي، خصوصًا أن الدول التي أبدت مواقف حادّة ضد إسرائيل لم تقتصر على الشرق أو الجنوب، بل شملت كندا، وهولندا، وإسبانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة نفسها.
واللافت أن بعض هذه الدول تُعد من أقرب حلفاء تل أبيب، ما يجعل الانعطافة الشعبية فيها صفعة قاسية لرواية “الدولة المظلومة”.. فلم تعد صور الأشلاء في غزة تحتاج إلى ترجمة؛ صار العالم يرى، ويسمع، ويتألم، بل ويشعر بالعار من صمته السابق.. خصوصاً أن وسائل الإعلام لم تعد قادرة على تزييف الحقائق أمام تدفق الصور الحيّة والمقاطع التي تنقل المأساة لحظة بلحظة.. وحتى النخب الغربية بدأت تراجع مواقفها، وتكسر حاجز الصمت، مدفوعة أيضًا بضغط شعبي تقوده أجيال شابة على منصات التواصل، تفضح الأكاذيب، وتنقل الواقع دون وسيط، في ثورة أعادت تشكيل الوعي الدولي.
إسرائيل، التي لطالما استخدمت سلاح الضحية كدرعٍ سياسي، تجد نفسها اليوم في موقف المتهم أخلاقيًا.. وهذا بالتأكيد لا يعني أن المعركة حُسمت لصالح الفلسطينيين، لكنها المرة الأولى التي يتقدّم فيها الوعي العالمي.. ولعل هذا التحوّل يُشكّل أرضية سياسية ومعنوية لأي مسار قادم، خاصة إذا أحسن الفلسطينيون استثمار هذه اللحظة التاريخية.. لأن معركة كسب التعاطف والتأييد الشعبي العالمي عملية تراكمية طويلة المدى، لكنها تصنع تيارًا ضخمًا لا يمكن للعالم تجاهله.. فالرأي العام وحده القادر على كبح الإجرام، وإحراج العدالة الدولية التي اختارت الصمت المشين، فإسرائيل تتفوق بالقتل والدمار.. لكنها تضرب اليوم في عمق سرديتها الصهيونية المزوّرة.