محمد ناصر العطوان
المعلم الجيد هو طالب علم قبل إن يكون موظفاً، والمعلم الضعيف هو الذي اكتفى بالمعارف والمهارات التي اكتسبها في مؤسسات الإعداد مثل كلية التربية جامعة الكويت أو التطبيقي.
واعلم رحمنا الله واياك، أن المعلم هو أهم ركن في أركان العملية التعليمية، وأكثر المؤثرين في التلميذ، وصفاته أسرع انتقالاً للتلميذ من صفات غيره، وأن التلميذ إذا أحب المعلم سهل العلم عليه وأصبحت أهداف المعلم أهدافه وخضع لرغباته وأطاع توجيهاته، ويسلك في السمت والهدى مسلكه.
لذلك، يقف المعلم اليوم عند مفترق طرق: إما أن يكون شجرة متجذرة في تربة الفضول، تُغذيها أسئلةٌ لا تنتهي، أو أن يكون حارساً لباب مغلق، يُراقب الساعة والحصص والجرس ووجوه الطلاب والجداول وهي تلتهم أيامه واحدةً تلو الأخرى.
المعلم الذي يعتبر نفسه طالب علم، لا ينام على وسادة شهادة تخرجه، لأنه يعرف أن العالم يتسع كل يوم، كبالون يفر من يد طفل، وأن التكنولوجيا ليست عدوة تُهدد عرشه، بل لغة جديدة يجب أن يتعلمها ليحاور المستقبل، فيدخل الصف الدراسي وهو يحمل أسئلةً أكثر من إجابات، وطرق تفكير أكثر من معلومات، وكتبه ليست نصوصاً مقدسة يُرددها، بل بذور يزرعها في تربة العقول اليافعة.
هو ليس مُعلماً فقط، بل صياد معرفة في غابة الإنترنت اللامتناهية، والدراسات والأبحاث التي لا تتوقف، يخطو بين منصات التعليم وكأنه يرقص على حواف الفضاء الرقمي، لا يخشى أن يقول: «لا أعرف»، لأن جهله اعتراف بوجود بحارٍ لم يبحر فيها بعد... طلابه يرون فيه مرآةً تعكس إمكانية أن يكونوا مُتعلمين أبديين، حتى حين تشيب الشعرات وتتجعد الأيدي.
أما المعلم الضعيف، طالب الترقية، وطالب الراتب، وطالب الحقوق، والذي يحسب الحياة بخطوات السلم الوظيفي، ذاك المعلم الموظف، المتشبع بما لم يُعطى، المتصدر للتدريس بغير إحاطة، فيُشبه آلة كُتب عليها أن تُعيد إنتاج ذاتها كل يوم... صباحه يبدأ بفتح دفتر التحضير، وينتهي بإغلاقه، وكأنه حارسٌ لمتحف الذاكرة التعليمية، حيث تُعلَّق الدروس ذاتها على الجدران منذ عشرين عاماً، الترقيةُ بالنسبة له ليس وسيلة لخدمة المعرفة وطلابها، بل هو غايةٌ تُقاس بسنوات الخدمة، لا بترك الأثر.
هو يطلب حقوقه بصوت عالٍ، لكنه ينسى أن الواجبات لا تُختزل في حضور جسدي بين جدران الصف الدراسي، يُحاسب النظام على تقصيره، لكنه لا يحاسب نفسه حين يُعلِّم الطلاب كيف ينسخون الإجابات، ولا يحاسب نفسه حين يقتل إمكانية نسج السؤال في مخيلة الطالب، ولا يحاسب نفسه حين يغشش الطلاب المعرفة... راتبه الشهريُ مقدس صغير يعبده، بينما تُصبح مهنته طقساً فارغاً من الروح.
في كتاب «إستراتيجية التدريس وأساليبه» يذكر د. وليد الكندري، والأستاذ الدكتور عبدالله الكندري، أن التجارب التعليمية قد أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أننا مهما استحدثنا في التعليم من طرق ووسائل، ومهما أضفنا من موضوعات جديدة، وطورنا في المناهج، ورصدنا الميزانيات والأموال، وأقمنا أفخم المباني والتكنولوجيات والأثاث الذكي، ومهما وضعنا من فلسفات وتصورات عن المواطن... فإن كل ذلك لا يمكن أن يحقق نفسه ولا يمكن أن نترجمه إلى مواقف موضوعية وعلاقات وتفاعلات، وخصائص سلوكية إلا عن طريق المعلم الجيد.
عزيزي القارئ، التعليم الحقيقي ليس وظيفة، ولا أدوات قابلة للحوكمة بل علاقة غرامية مع المعرفة، المعلمُ المبدعُ يعرف أن الفصل الدراسي ليس سجناً للمناهج، بل هو ساحةٌ لزراعة الثورات الفكرية الصغيرة: ثورة السؤال، وثورة الشك، وثورة الاكتشاف. أما الآخر، فسيظل يراقب تقويم الشهور، ينتظر أن تُحرره الترقية الأخيرة من سجن كان حارسه الوحيد... معلمون اكتفوا بما قدمت لهم مؤسسات الإعداد، ثم توظفوا لكي يبنوا سقفاً من زجاج فوق رؤوس الطلاب، ويُسمونه «مستقبلاً»... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.