علي محمد الحازمي
في كل مرة يُذكر فيها مصطلح «تضخم»، تتجه الأنظار إلى البنوك المركزية، وأسعار الفائدة، وأسواق السلع. لكن ثمة نوع جديد من التضخم لا يُناقش كثيراً، ولا يظهر في مؤشرات الأسعار أو المستهلك. إنه «التضخم المعرفي»، الناتج عن انفجار الذكاء الاصطناعي، خصوصاً منذ دخول نماذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT إلى ساحة الإنتاج المعرفي العالمي.
لقد دخلنا عصراً تُنتَج فيه المعرفة بكميات هائلة، وبكلفة شبه صفرية. آلاف التحليلات، المذكرات، العروض التقديمية، الخطط والاستراتيجيات، تُكتب وتُولَّد في ثوانٍ، ليس عبر بشر، بل عبر نماذج ذكائية مدربة على مليارات الصفحات. لم تعد المعرفة نادرة، بل مفرطة. ومع هذا الفائض، بدأت قيمتها الحقيقية تتآكل.
أبسط المفاهيم الاقتصادية تقول إنه: كلما زاد المعروض من سلعة ما دون زيادة مماثلة في الطلب، تنخفض قيمتها. والأمر نفسه ينطبق على المعرفة. فالمعلومة لم تعد ميزة، بل القدرة على تمييز المعلومة وتأطيرها وتوظيفها. في السابق، كانت الخبرة نتيجة سنوات من التراكم والعمل، أما الآن، فقد أصبحت قابلة للتوليد الآني.
هذا التحوّل يهدّد بنى اقتصادية تقليدية عديدة، مثل الاستشارات، التعليم العالي، الصناعات الإبداعية، وحتى منظومات براءات الاختراع. في وقت سابق كانت المعرفة هي العملة الأغلى، أصبحت الآن متاحة للجميع، وبالتالي لم تعد كافية لوحدها لتوليد العائد. التأثير لا يقتصر على القطاعات فقط، بل يتعداه إلى الأفراد. فالعديد من الوظائف التي تقوم على المعرفة العامة مثل الترجمة، الكتابة، التحليل الأساسي تواجه خطر التهميش أو التراجع في الأجور. وفي المقابل، ترتفع قيمة مهارات مثل التفكير النقدي، الإبداع الحقيقي.
قد نصل إلى نقطة نحتاج فيها إلى ما يشبه بنك مركزي للمعرفة؛ جهة تنظّم هذا التدفق، وتُعيد تعريف الجودة، وتمنح الاعتماد والقيمة لما يُنتج من معرفة بشرية في ظل الفيض الاصطناعي. ليس الغرض الحجب أو المنع، بل إعادة ضبط العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك، بين الكمّ والنوع. إننا لا نعيش فقط ثورة صناعية رابعة، بل لحظة تعاد فيها صياغة القيمة ذاتها. الذكاء الاصطناعي لم يخلق فقط اقتصاداً جديداً، بل أزمة هوية معرفية هزّت أسس القيمة نفسها. والسؤال لم يعد: ماذا تعرف؟، بل: ما القيمة الحقيقية لما تعرفه؟ وهل يمكن الوثوق بمن ينتجه؟
في النهاية، التضخم المعرفي قد لا يُقاس بالنقاط، بل يُقاس بتآكل المعنى، وضياع التميز البشري وسط سيلٍ لا ينضب من القول الذكي المتكرر.