علي عبيد الهاملي
في وقت تزخر موائد الطعام بما لذ وطاب في كثير من الأماكن، وتئنّ فيه حاويات النفايات من كثرة ما يُلقى فيها، هناك من يموت جوعاً، لا مجازاً، بل حقيقة دامغة تُدوّنها وكالات الأنباء، وتصورها الكاميرات وتعرضها الشاشات.
عصرنا هذا، الذي شهد ثورات التكنولوجيا، وقفزات العلم، وغزوات الفضاء، لم يستطع بعد أن ينتصر على أقدم أعداء البشرية؛ الجوع، بل ربما أسهم في تكريسه بصور أخرى؛ إذ تحوّلت الحروب من معارك على الأرض إلى حصارات على الغذاء، ومعاقبة الأطفال بحرمانهم من قوتهم، وفرض الجوع كسلاح في لعبة السياسة الدولية.
ما الذي يبرر أن يموت طفل وهو يبحث عن كسرة خبز، بينما يُلقى في حاويات النفايات ما يكفي لإطعام قرية بأكملها؟ ما الذي يجعل أمّاً تُرضع رضيعها ماءً مخلوطاً بالسكر لأن الحليب غير متوفّر، بينما تُلقى عبوات الحليب في نفايات بعض البيوت من دون أن تُفتح؟
الفارق ليس في الموارد، بل في النوايا، فالعالم يملك من الطعام ما يكفي لإشباع الجميع ويفيض، لكنه لا يملك ما يكفي من الرحمة والعدل لتوزيعه على البشر بالتساوي. والتاريخ لم يخطئ حين قال إن أكثر الجرائم لا تُرتكب بالسلاح، بل بالصمت. وصمت العالم عن تجويع الأبرياء هو شهادة زور في محكمة العدالة الإنسانية.
الجوع الذي نراه اليوم في مخيمات النزوح ومدن الحصار وبقاع القهر ليس صدفة، بل نتيجة مباشرة لحروب عبثية، وصراعات لا طائل منها، تسحق فيها الشعوب، وتُستنزف الثروات، وتُزهق الأرواح، لا من رصاص البنادق فقط، بل من ندرة الغذاء، وغياب الدواء، وخراب الأرض.
اللافت أن الجوعى حين يشتكون يذهب صراخهم في الفراغ دون أن يترك صدى، بينما الممتلئون شبعاً يجدون من يستمع إليهم حتى وهم يتكلمون همساً، كأننا أمام مشهد ساخر من مسرحية عبثية، ينقسم فيها العالم إلى فريقين: فريق يأكل حتى التُّخمة ويشتكي، وفريق يموت جوعاً ولا يجد من يسمع شكواه.
أمام هذا التناقض القاسي لا نملك إلا أن نسأل: أين اختبأت الإنسانية؟ وأين ضاعت قيم العدالة التي نفاخر بها؟ وهل باتت دموع الجائعين أرخص من فتات موائد المُترفين؟ إن الصمت على هذا المشهد ليس حياداً، بل مشاركة في الجريمة.
ما أحوج هذا العالم إلى أن يتذكر أنه لا يُقاس برصيده من الذهب والنفط والتكنولوجيا، بل بقدرته على إنقاذ إنسان يتضور جوعاً، فالجائع لا يحتاج إلى خطب رنانة ولا شعارات إنسانية، بل إلى من يقاسمه لقمة، ويوصل إليه غيث الرحمة قبل أن ينقرض الضمير.
إن ما تقوم به دول تملك صحوة الضمير، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، وشقيقاتها، من جهود لإيصال الطعام إلى أفواه ضحايا الحرب العبثية في غزة يمثل نقطة مضيئة وسط هذا الظلام الذي يحيط بالعالم.
يا لمرارة السؤال حين نطرحه على أنفسنا: كم مرة أهدرنا فيها طعاماً كان يمكن أن يُنقذ حياة؟ وكم مرة غضضنا فيها الطرف عن صورة طفل هزيل نخره الجوع، لأننا لا نطيق مواجهة الألم، بينما يمزق الألم ضحايا مثل هذه الحروب العبثية؟
رغم كل ما بذله الكُتّاب والأدباء لتجسيد صورة الجوع في زمن الحروب من خلال أعمالهم الأدبية، إلا أن ما نشاهده من صور حية للجائعين تنقلها لنا كاميرات التلفزيون يجعل كل الأعمال الكبيرة تتراجع أمام تقرير مراسل تلفزيوني يصف حالة الجوع التي يعاني منها هو وابنه ذو السنوات الخمس وأسرته، وأمام صورة طفل تبرز عظامه من الجوع، في وقت تفيض حاويات النفايات بالطعام في أماكن أخرى من العالم.
في زمن التخمة هذا، يصبح الجوع عاراً على البشرية، لا على الجائعين. الجائعون لا يريدون أن نرثيهم، بل أن نكف عن تجاهلهم، كي لا نموت ونحن متخمون بالصمت.