محمد ناصر العطوان
عزيزي القارئ، واسمح لي أن أناديك عزيزي، فالمعزة لوجه الله سبحانه وتعالى أصبحت علاقة نادرة في زمن مادي فرداني مهووس بالذات، والهوس جنون، وظهر الجنون كمسألة نفسية ويُناقش كمرض في عام 1800م مع محور الجنون والهذيان، والرجل الذي يظن نفسه دجاجة والمرأة التي تظن نفسها زجاجة وكانت السفن في الموانئ تنزل البضائع والتوابل والمجانين.
ثم تحوّل في عام 1900م إلى مأزق الإحساس بالذنب، وهو ما يمزق الإنسان الذي غدا عُصابياً نتيجة محاولاته لتجاوز نفسه وطفولته، فظهرت اضطرابات التكيف والقلق العصابي والوسواس القهري والاكتئاب العصابي، وفي عام 2000م أصبحت أمراض الشخصية العصرية أمراضاً ترتبط بمسؤولية الفرد الذي تحرر من قانون آبائه ومن الأنظمة القديمة للطاعة والامتثال للمعايير الاجتماعية والوصايا الدينية، فأصبحت الكآبة والإدمان هما وجها العملة للفرد صاحب السيادة على نفسه.
في كتابه «تعب أن يكون المرء ذاته» لعالم الاجتماع الفرنسي ألان إهرنبرغ، يمتعنا في رحلة يعالج خلالها موضوع الاكتئاب والتغيرات النفسية والاجتماعية المرتبطة بالمجتمع الحديث. يقدم إهرنبرغ، تحليلاً عميقاً لكيفية تحول المجتمع من التركيز على الامتثال للمعايير الاجتماعية إلى تعزيز الفردية والمسؤولية الذاتية. يرى إهرنبرغ، أن هذا التحول قد أدى إلى زيادة الضغط على الأفراد لتحقيق ذواتهم والنجاح في حياتهم الشخصية والمهنية، مما ساهم في ارتفاع معدلات الاكتئاب والاضطرابات النفسية.
يستكشف الكتاب كيف أن القيم الاجتماعية الحديثة، مثل التميز الشخصي والقدرة على تجاوز العقبات النفسية، قد وضعت عبئاً إضافياً على الأفراد، مما جعلهم يشعرون بالذنب والفشل عند عدم تحقيقهم لهذه المعايير.
ومن وجهة نظري، أرى أن الهروب من سجن الذات إلى فضاء المعنى، في عالم يصرخ بالـ«أنا» ويقدس الفردانية حتى الثمالة، يصبح من خلال التطوع كونه تمرداً على منطق العصر.
وما يصفه ألان إهرنبرغ، كـ«تعب من أن يكون المرء ذاته» ليس سوى نتيجة حتمية لعبادة الذات، حيث يتحوّل الإنسان إلى سجان لنفسه، يسقط تحت وطأة التوقعات التي فرضها عليه مجتمعٌ يربط القيمة الإنسانية بالإنجاز المادي والتفرد. لكن ماذا لو كان المخرج من هذا النفق المظلم هو أن نخرج من أنفسنا؟ هنا يصبح العمل التطوعي ليس مجرد فعل خير، بل ثورةً على ثقافة «الأنانية المُقدسة»، وخطوة نحو استعادة «الغيرية» كفضيلة إنسانية عابرة للزمن.
في مجتمع يطلب منك أن تكون نجم نفسك، يُذكرك التطوع بأنك جزء من عالم أكبر.
أنه يحررك من «العنصرية» والتعنصر والتنمر، إنه يُحررك من سؤال «ماذا أريد؟» إلى سؤال «ماذا يحتاج الآخرون؟»، فينقلب الاكتئاب الناجم عن هوس تحقيق الذات إلى طاقة تُعطى للعالم.
الدراسات النفسية تُظهر أن المشاركة في الأعمال التطوعية تُطلق هرمونات السعادة (مثل الأوكسيتوسين) أكثر من جلسات التأمل الفردية أو حتى الجلوس في يخت بقيمة 2 مليار دينار، لأنها تلامس أعمق حاجة إنسانية: وهي «أن تُشعرك الحياة بأنك مفيد». التطوع هنا ليس هروباً من الواقع، بل مواجهة له عبر إعادة تعريف الواقع نفسه: من معركة فردية إلى مشروع جماعي.
لا يقتصر دور التطوع على شغل وقت الفراغ أو علاج الملل، بل هو تحويل للوجود من كونه عبئاً إلى كونه رسالة. حين تُمارس عملاً تطوعياً إغاثياً أو تنموياً، فإنك لا تمنح الآخرين شيئاً فحسب، بل تمنح نفسك إجابة عن سؤال المعنى الذي يُطارد الإنسان المعاصر؛ فالتضحية بالوقت والجهد دون توقع مادي من أجل آخرين لا تعرفهم، هو اقترابٌ من فكرة الخير المُجرد، الذي لا يخضع لمقاييس المادة أو المنفعة.
وأخيراً، أحمد، أنفق نصف راتبه على جلسات علاج نفسي بـ«الكلام الفاخر الذي من تحته هواء ومن فوقه خواء» عند اللايف كوتش، واشترى معدات اليوغا مع سجادتها من أمازون، بضعف راتبه الآخير، وجرب كل حبوب «السعادة» المسموعة والمشروبة والممنوعة. لكنه ظل يشعر بأنه «علبة فارغة» حتى قرّر – دون خطة – أن ينظف أحد الشواطئ عندما شاهد متطوعين مجهولين مروا أمام جلسة يوغا، كان مشاركاً فيها.
يقول أحمد: «للمرة الأولى اسمع البحر يتحدث ويخبرني بكلام جميل، رغم أني كنت مشغولاً عنه بجمع الزجاجات البلاستيك». الآن، أحمد، مشارك في فريق تطوعي ولا يُعرف ما إذا كان «مكتئباً» أم لا، فالسؤال لم يعد مطروحاً عنده، لكنه يَعرف أنه ينام ليلاً دون أن يسأل غوغل: «هل أنا موجود؟».
هكذا يبدو العلاج الأرخص والأكثر إيلاماً للذات الحديثة: ألّا تُمركز نفسك في الكون!... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... ابتر.