صحيحٌ بأنَّ السينما العالمية قدَّمت العديدَ من الأفلام التي لعبت الحيوانات الطائرة دورَ البطولةِ فيها، وحقَّقت تلك الأفلام بفضلِ قوة الإثارة والتشويقِ إيرادات كبيرة نتيجة تفاعل الناس معها وإعجابهم بها، ولكن بما أن مرتادي دور السينما كانوا بكامل وعيهم، لذا وبمجرد خروجهم من تلك الصالات كانوا يتجاهلون احتمالية تعرضهم واقعياً للهجمات جواً من قِبل قطعانٍ من الحيوانات المماثلة؛ فوعيُّ الفرد اليقظ إذن كفيلٌ بأن يقوم بعملية الفصل السريع بين الواقع الحقيقي والواقع المختلق في الأفلام.
ولا شك في أن اللحظات التي يرى المرء نفسه فيها مشدوهاً إلى ما يرى أو يسمع كثيرة في عالم التكنولوجيا والتقانة حاضراً، أما في ما يتعلق بأخبار الماضي وحوادثه، فالقارئ كثيراً ما يبلغ ذروة الذهول وترتسم علامات الدهشة والعُجب على وجهه وهو يقرأ في كتاب جايلز براندريث (4000 حقيقة مذهلة)، ولكن كمواطن متابع لما يجري في العالم، فالذي تعودتَ عليه وهو يدب على الأرض ولا قدرة له على الطيران فإن انتقاله الفجائي من الأرض إلى السماء وهو بكامل ثقله المادي حتماً سيجعلك مشدوهاً، بل ومذهولاً إلى حين التوصل إلى معرفة الأسباب المقنعة التي كانت وراء الانتقال من حالة إلى حالةٍ أخرى بعيدة عن طبع وقدرات المنتقل، كرؤية الناظر على سبيل المثالِ فيلاً ضخماً وهو يسبح بكامل الرشاقة في رحاب الفضاء!
عموماً فالأمر الذي دفعنا لتصور انتقال أي كائن من الأرض إلى السماء، ومن ثم تشكيل حشدٍ مع مَن يشبهونه في التصرفات ويشاطرونه الأفكار والتصورات، هو أنه من المعروف أن الكائن الحي لينخرط في الجماعة التي تتحول في ما بعد إلى ما يشبه الحالة القطيعية لدى معشر البهائم ويتحلى ذلك الكائن بسماتها ويُحاكي سلوكياتها ينبغي أن يتم ذلك وجودياً وعلى أرض الواقع، وذلك حتى يحتك، يتفاعل ويتحرك مع الحشدِ إذا ما استدعى الأمرُ أو طُلب منه ذلك؛ أمَّا أن ينتمي الفردُ إلى الكتلة المحتشدة ويتفاعل معها ويتحرك وفق حركتها عن بُعد، فهذه لم تكن في الحسبان من قبل، باعتبار أن التفاعل الغريزي يتطلب الحضور الحقيقي والميداني كما هو الحال في تجربة العلماء الذين وضعوا خمسة قرودٍ في قفصٍ واحد ومن ثم قاموا بتبديلهم من أجل أن يأخذ القرد الجديد سمات المجموعة ويُحاكي تصرفاتها.
وإذا كانت ثقافة الانتماء الكلي للسرب تتطلب من المنتمي للجماعة أن يبصم لها بشكل عمائي، وينفّذ الأوامر الصادرة عنها بشكل غريزي، بعيداً عن التمعن في الحدث أو التأكد من المعلومة، الأمر الذي كان معمولاً به على الأرض بسبب انتشار الأمية والجهل، إضافة إلى الروابط الإيديولوجية والعقائدية التي تمنع الفرد من إشغال فتيل التفكير والإيمان الأعمى الذي يمنعه من اللجوء إلى آلية التساؤل قبل الاتيان بأيّ تصرف، أو التأكد من صحة ما يُقال له أو ما يؤمر به، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو يا ترى ما الذي يدفع أشخاصاً من أصحاب الشهادات العليا، وأناساً يرون أنفسهم من النخبة، إلى تصديق كل ما يجدونه أمامهم في أزقة السوشال ميديا، بل ويتبنون على وجه السرعة كل ما يرِد في النص أو الخبر أو القصة من دون أن يتعب واحدهم نفسه ويتساءل عن حقيقة ما يُشاع وما يتم تناقله بين الصفحات الإلكترونية وكذلك الأمر مختلف المنصات الاجتماعية، وذلك باعتبار أن الخادم الكوني أي العم Google في متناول أيَّ فرد منهم؟ أم أن المرء بخصوص ما يهواه يتجرد بلمح البصر ومن تلقاء نفسه مِن مَلكات العقل والحكمة والاتزان، وبالتالي ينجرف مع ما يناغي هواه كوضع الكائن المتجاوب غريزياً مع سربه، وذلك عبر تفاعله السريع مع ما يُطرح أمامه على خوان تلك المنصات، وما يتم تداوله بدون أيّ تمحيص، ومن دون أن يكون لما يتم تلقفه ونشره نصيب من الحقيقة، إذ يغدو مثقفنا الميمون مسلوبَ الإرادةِ تماماً كأيِّ شخصٍ من الدهماء، فتراه وقد سلّم نفسه كلياً لسلطان منصات التواصل عبر الأثير، بما أنه صار مقلداً وتابعاً من دون درايته وقَبِل بـ"العبودية الطوعية للأجهزة الرقمية عن طيب خاطر".
إقرأ أيضاً: اللاجئ ومخاوفه المستقبلية
وكما على المتعلِّم المؤمن بنفس الوقت بالفكر العشائري اتباع تعاليم العشيرة والسير في الميادين خلف شيخٍ ربما كان نصف جاهل، هكذا صار حال بعض المثقفين المساقين في رحاب دنيا الرقميات من قِبل الغوغاء، ويبدو جلياً والحالة هذه بأن نوافذ وكوات وسائل التواصل الاجتماعي أخذت معها كل ما هو سلبي من على الأرض إلى الفضاء، علماً أنَّ المتوقع من هذه المنصات هو ترك المثالب على الصعيدِ ومن ثم الصعود نحو الكواكب بكل ما هو راقي ومتطور وحضاري مناسب لتلك التقنيات المتطورة، إلاَّ أنَّ الجانب الإلكتروني فعلاً تطوَّر بشكلٍ مذهل، ولكن في الوقت ذاته احتفظ الكثير من مرتادي تلك المنصات بعاداتهم الممجوجة، والمشتركين بتلك المنصات ما زالوا متمسكين بكل السلبيات المتوراثة منذ أجيال، وبدلاً من طرحها أرضاً ورميها في المكبات خلفهم من علياء التقانة، حملوا معهم تلك المثالب كما هي إلى الفضاء الرقمي، وربما هذا السبب وأسباب أخرى عديدة هي التي دفعت بأب الإنترنت، تيم بيرنرز، إلى الاعتذار عن خلقه لتلك الشبكة العالمية، حين يقول: "نحن نعرف الآن أن الشبكة قد فشلت، كان يجب أن تخدم البشرية ولكنها أخفقت".
إقرأ أيضاً: كونوا رحماء كالسيّاف
بناءً عليه، ليس من المستغربِ كمراقب أن تلاحِظ الممتَعض من هذا الوضع اللاصحي في لحظة غضبٍ على ما آلت إليه الأمور مِن حوله وهو يردِّد بأن القطعان البشرية بعد أن كانت تدب على الصعيد وتضرب الأرض بأظلافها ها هي اليوم ترسم مسارها في الهواء الطلق، وتضرب السُّحب بأجنحتها وتطير مع كامل أثقالها الأرضية في الفضاء، ولكن لئلا نسلِّم أنفسنا لسلطان القنوط ربما من الأفضل لنا وللآخرين العمل معاً على تنظيف السماء وتخليصها من الأدران التي علقت بالناس عندما كانوا على الأرض قبل أن يرتقوا بأفكارهم وينطلقوا نحو ملاعب النجوم، وذلك لئلا تستمر الطفيليات بالنمو والانتشار في العلالي، ولكي لا يدوم عمر التستر على "الزناخات" في أزقة الفضاء التكنولوجي، ولكي نقول إننا فعلاً استفدنا من التقنية حسب تعبير الكاتب أمير تاج السر "علينا أن نطور الشوارع الافتراضية فلا يختبئ الأذى" في كل زواياها، وبالتالي لا تنتقل الحالة القطيعية وظاهرة انتشار الوثوقية السلبية والتعجيل في إصدار الأوامر والنواهي والأحكام القطعية بدون تروي وبدون وجه حق بتمامها من الأسفل إلى الأعلى.