لقد قرأنا الكثير وتابعنا الكثير عن تاريخ الإبادات التي تمت في العالم، وبعد كل هولوكوست كنت شخصياً أظن أن ثمة نخوة دولية سوف تفعل فعلها وتتدخل على نحو عاجل في اللحظة ما بين إشهار السكين وتوجه يد السفاح نحو رقبة طفل ممدد أرضاً وهو يولول راجياً قاتله العفو، من دون جدوى، كي تمنعه في هذا الزمن الذي ترصد فيه الأقمار الصناعية حركة جناحي فراشة، أو رمشة عين أي امرئ كوني. ولعل في زمن ثورة المعلوماتية والسوشيال ميديا والإعلام الذي يحيط أحدنا بما يجري في إحدى غرف بيته قبل أن يعلم بها هو، إذ لم يعد بالإمكان التستر على المذابح كما كان الحال قبل قرون، حين كان الحديث عن مجزرة ما يكاد يكون أقرب إلى الأسطورة التي لا تصدق.
لقد قرأنا الكثير عن محاكم التفتيش الإسبانية، والتطهير العرقي للبوسنيين المسلمين في يوغوسلافيا، والمذابح الجماعية في رواندا، واضطهاد الروهينغا، واعتبرنا أن كل ذلك لن يتكرر. إلا أن ما تم في زمن نظام البعث العنصري، ولاسيما في زمن الأسدين المجرمين، جعلنا نوقن أن عدم إقدام الأسرة الدولية على إيقاف الحرب في سوريا إنما يقع ضمن مخطط محكم تورطت فيه دول إقليمية وإسلامية في آنٍ واحد.
بعد سقوط النظام المجرم، مضت أسابيع عديدة ساد فيها الصمت، وإن كنا نجد انتهاكات ترتكب بحق العلويين. لقد رفعنا أصواتنا كأحرار قائلين: مؤكد أن في منطقة الساحل بقايا شبيحة النظام المجرم، ويمكن نشر قوائم بأسمائهم، لئلا يفتح المجال لقتل الأبرياء من قبل المجرمين العطاش إلى الدم، كما أن أمثالهم موجودون على امتداد سوريا، من دون أن يتم حصرهم في طائفة واحدة. إذ ورط الأسد أعداداً كبيرة من العلويين عبر اتباع سياسة التجويع، التي لم يجد المواطن خلاصاً منها إلا بقبول خيار الوقوع في مصيدته، لاسيما بعد رسم الأمر بأنه مستهدف من قبل المعارضة. وقد زادت حدة الصراع بعد إعلان التدخل الرسمي لحزب الله وإيران.
إقرأ أيضاً: "تفليل" العلويين ونفاق الإعلام العربي!
كل هذا يمكن قراءته، وتفهمه، ووضع ضوابط معالجته عبر المعايير القانونية التي نادت بها المعارضة قبل سقوط النظام، بالتعهد بتطبيق العدالة الانتقالية بما يضمن إنصاف ذوي الضحايا وتقديم المجرمين للمحاكم. لكن ما حدث كان خلاف ذلك.
مؤكد أن هناك بعض المجرمين الذين باتوا يسمون بـ"الفلول"، الذين كانوا يدركون أنهم ملاحقون وسيقدمون للمحاكم نظراً لما ارتكبوه من جرائم. كما أن تسريح الجيش والموظفين كان له أثر كبير في ردود الفعل عند أناس لم يكونوا من عداد الملطخة أيديهم بالدماء، ما جعل مجموعة صغيرة أو حتى كبيرة من الفارين تلجأ إلى المناطق الجبلية، وأن يتم تأسيس ما سمي ب: المجلس العسكري لتأسيس سوريا، بتحرض إيراني. لكن الأمر لم يكن يتعلق بملاحقة هؤلاء فقط، بل كانت هناك نية أخرى، نية إبادة واستئصال، نفذتها فصائل ذات تاريخ أسود ورايات سوداء، ضمت أجانب فارين من بلدانهم، أو مجرمين ملاحقين دولياً، أو سذجاً ومرتزقة جاؤوا من أنحاء العالم، تماماً كما استقدم الأسد وإيران وحزب الله مقاتلين أجانب إلى سوريا.
لم ينقطع اتصالي بصديقات وأصدقاء من الساحل بشكل يومي. لقد شهدنا أن هذه الفصائل المرتزقة، التابعة لتركيا أو غيرها من الجهات الممولة التي تريد تدمير سوريا، قامت باقتحام بيوت الآمنين، بدعوى التمشيط في ظل إعلان منع التجول، والقيام بنهب المحال التجارية، ونهب البيوت، وارتكاب كل الجرائم التي لم يعد بالإمكان التستر عليها في هذا العصر. تمت كل أشكال الإجرام، وأولها ذبح الأطفال والنساء والشيوخ. ذبح أفراد عائلات كاملة، من ذوي الشهادات العلمية العالية الذين لا شأن لهم بأي نشاط سياسي.
إقرأ أيضاً: رسالة مفتوحة إلى أولي العهد الجديد في سوريا
لقد تم تضخيم أعداد من سميوا بـ"الفلول"، إذ أكدت مصادر عدة أن أعدادهم لم تتجاوز العشرات، في أفضل الأحوال. بل هناك من قال إنهم لا يزيدون عن بضعة أشخاص، أو حتى عشرة. أما الاستنجاد بإسرائيل، فقد كان تعبيراً عن حالة اليأس السياسي التي دفعت رجل دين إلى البحث عن أي خيار يوقف الإبادة، بعد استنفاد كل سبل الحوار مع الجهات الجديدة المسيطرة على الأرض. لكن إيران، وفلول حزب الله، كان من مصلحتهم استجرار المنطقة إلى هكذا مجازر، للثأر عما لحق بهم من هزيمة.
إن قوائم أسماء شهداء الساحل السوري تبين أن الانتقام كان محض طائفي، لا علاقة له بالعدالة، أو بالحرب، أو بمعارك ومواجهات. نحر الأطفال في بيوتهم ليس نتيجة حرب، بل نتيجة مشروع إبادة ممنهج. ومن هنا، أكد بعض المراقبين أن خلع ملابس الضحايا في بعض الفيديوهات كان لإخفاء هويتهم المدنية، وأنه تم إلباس بعضهم ملابس عسكرية بعد قتلهم، لاستكمال الرواية الملفقة. لكن ماذا سيفعلون مع النساء والشيوخ والأطفال الذين لا يمكن إلباسهم الزي العسكري؟
لماذا لا يتم تسليم جثث الضحايا لذويهم؟ هناك مخاوف حقيقية من أن يتم دفنهم في مقابر جماعية كما فعل النظام سابقاً، ليُمحى أثرهم، وتُسجل الجرائم ضد مجهولين، أو يُنسب الضحايا المدنيون: أطفالاً ونساء وشيوخاً ورجالاً أبرياء، إلى "الفلول" في محاولة لطمس الحقيقة. بل هناك حديث عن إلقاء الجثث في وادٍ سحيق، للتخلص من آثار المجازر التي رصدتها بعض المنظمات الحقوقية.
إنه من الضروري إبعاد فلول الفصائل المرتزقة، وتشكيل لجنة حقوقية سورية محايدة، إلى جانب لجان من بلدان عربية تحت إشراف وحماية وحصانة دولية، وتقديم الجناة وقادتهم إلى محاكمات عادلة. كما يجب إبعاد العناصر الأجنبية عن البلاد، ووضع السجناء الدواعش تحت تصرف جهة محايدة، لمنع إعادة تأهيلهم ليكونوا روافد لهذه الفصائل الإرهابية.
إقرأ أيضاً: وباء التحريض: ديناميكية الخسَّة وصناعة الانحطاط
مئات الفيديوهات وصلت إلينا، وأكثرها -إن لم يكن كلها- فيديوهات صحيحة. ولعلَّ الغريب في الأمر أنَّ هؤلاء المرتزقة المجرمين يصورون انتهاكاتهم بعدسات هواتفهم، رغم وجود أوامر بعدم التصوير، في إشارة إلى أن خطاب داعش ما زال مهيمناً على مشروعهم. وهذا ما يجب أن تفك الحكومة الجديدة شيفرته، لأنها مسؤولة عما يجري، ومسؤولة عن وضع حد لمجرمي هذه الفصائل الملطخة أيديهم بالدم.
بعضهم شكك في الفيديوهات، وأي تشكيك بها - من دون تحقق - إنما يصب في خدمة المجرمين، ويمثل امتداداً لجريمتهم. هناك فيديوهات كثيرة لا يمكن نسيان ضحاياها، ولعل أبرزها ذلك المقطع الذي يظهر فيه قتلة يهينون امرأة علوية، ويدينون أبناءها العزل الذين أجبروهم على خلع بزَّاتهم العسكرية في انتظار أن يلبسوا أخرى، لتقديمهم كفلول، رغم أنَّ القتلة لم يفطنوا إلى فضح أنفسهم بأنفسهم في هذا المشهد.
مذابح الساحل السوري تلطخ جبين كل من يدافع عن القتلة أو يتبناهم. تلطخ جبين الأسرة الدولية التي لم تتحرك لوضع حد لهذه الجرائم، وما زالت تختبئ وراء أصابعها، متبعة وصفة تضليل العدالة، في انتظار أن تمر الجريمة بلا عقاب، كما حدث في مجازر سابقة، كانت تُظن أنها الأخيرة، لكنها لم تكن سوى بداية لجرائم أخرى.