: آخر تحديث

عبير الكتب: طه حسين والفتنة الكُبرى

4
4
3

بعض القوم يجعل من رمضان مُستراحاً من شواغل العمل اليومي، وصوارف الأخبار السياسية التي تقرع الأسماع وتوجع القلوب على مدار دقّات الساعة، فيكون رمضان، لهذا النفر من الناس، فسحة للقراءة والتأمل وإنعام النظر في أصول الأمور ودفاتر التاريخ الذي ما زال يصنعنا ويفعل فينا الأفاعيل.

نعم... ومن ذلك التاريخ الإسلامي، ومنه تاريخ صدر الإسلام، الذي عنهُ انبثقت الفرق وتبلبلت ألسن الأفكار والطوائف، خصوصاً ما عُرفت بوصف «الفتنة الكبرى» قُبيل وبعد مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفّان.

إنها مرحلة حسّاسة ساخنة فوّارة من التاريخ، يرِد إليها ويصدرُ عنها، لليوم، أنصار السُّنّة والشيعة، العلوية والعثمانية، الهاشمية والأموية، والخوارج الشُراة؛ بِأَزارِقَتِهِم وصُفريتهم وإباضييّهم ونجداتهم.

عميد الأدب العربي طه حسين من أعلام العصر الذين أدلوا بدلوهم في هذا المُستقَى من مياه التاريخ، فجلب دلوه غرَفاتٍ من التأمّلات، فكان كتابه الشهير «الفتنة الكبرى» بجزأيه.

قال الدكتور أو الشيخ طه في تقدمة كتابه: «هذا حديثٌ أريد أن أُخْلِصَهُ للحقِّ ما وسعني إخلاصه للحقِّ وحده، وأن أتحرَّى فيه الصواب ما استطعتُ إلى تحرِّي الصوابِ سبيلاً، وأن أَحْمِلَ نفسي فيه على الإنصاف لا أَحِيدُ عنه ولا أُمَالئ فيه حزباً من أحزاب المسلمين على حزب، ولا أُشايع فيه فريقاً من الذين اختصموا في قضية عثمان دون فريق؛ فلستُ عثمانيَّ الهوى، ولستُ شيعةً لعلِيٍّ، ولستُ أفكّرُ في هذه القضية كما كان يُفكّر فيها الذين عاصروا عثمان واحتملوا معه ثقلها وَجَنَوْا معه أو بعده نتائجها».

كان طه حُسين يعلم حرَج الكلام في هذه المسألة الكبرى، رغم مرّ القرون وكرّ السنين: «وأنا أعلم أن الناس ما زالوا ينقسمون في أمر هذه القضية إلى الآن، كما كانوا ينقسمون فيها أيام عثمان رحمه الله».

وعن منهجه في تناول هذه الفتنة الكبرى، قال: «أنا أريد أن أنظر إلى هذه القضية نظرة خالصة مُجرَّدة، لا تصدر عن عاطفة ولا هوى، ولا تتأثر بالإيمان ولا بالدين، وإنما هي نظرة المؤرخ الذي يجرِّد نفسَه تجريداً كاملاً من النزعات والعواطف والأهواء، مهما تختلف مظاهرها ومصادرها وغاياتها».

وأخيراً، كان أمل الأستاذ طه أن يحتذي منهج الصحابي سعد بن أبي وقّاص الذي قال خلال الفتنة: «لا أقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول: (أصاب هذا وأخطأ ذاك)». فقال طه: «أنا أريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهم الله؛ لا أجادل عن أولئك ولا عن هؤلاء».

هل نجح طه حسين في تجنيب نفسه غائلة التهم بالانحياز خلال رحلاته التأملية هذه في عصر الفتنة الكبرى؟

لا... فكثيرٌ من أهل السُّنّة لم تعجبهم قراءة طه، وبعض الشيعة قال إن طه لم ينصفهم كامل الإنصاف.

لكن، بالنسبة إلى الكتب العربية، وفق تقديري، فلعلّ الأقرب للقراءة العلمية الجريئة الجديدة البعيدة الغْور، هي قراءة البحّاثة الفهّامة الممسك بعُرى التاريخ ومقابض المنهج الحديث، التونسي الدكتور هشام جعيّط في كتابه «الفتنة».

نحن الآن في عام 1446 للهجرة، والفتنة الكبرى كانت في العقود الثلاثة الأولى من الهجرة، مما يعني أن بعضَ الزمن هو حقّاً زمنٌ صانعٌ لغيره، وغيرهُ عالةُ عليه، وفي كُلّ أمّة من الأمم «فِتَنُها»؛ الكُبرى منها، والمتوسطة، والصُغرى.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد