بالرغم من حيادها المعلن إزاء مسألة "الأزمة الأوكرانية"، تواصل أنقرة تقديم الدعم العسكري – التقني وغيره من الأشكال إلى كييف. وفي الوقت نفسه، ومن أجل التنصل من المسؤولية وتجنب التكاليف السياسية، تصنف القيادة التركية تقليدياً "التعاون العسكري الفني" مع أوكرانيا بأنه "نشاط شركات خاصة"، وتدعي أنها لا تستطيع التأثير على قراراتها.
والحال أنَّ التعاون الفني التركي مع أوكرانيا المنسوب للقطاع الخاص، وصل منذ بداية عام 2025 إلى مستوى الدولة الرسمي، حسبما تشير البيانات الواردة منذ بداية العام حتى اليوم. يضاف إلى ذلك بأن وزارة الدفاع الأوكرانية طلبت من شركة الصناعات العسكرية التركية "أسيلسان"، المدعومة من حكومة العدالة والتنمية، تزويدها بأنظمة الحرب الإلكترونية العسكرية، والملاحة عبر الأقمار الصناعية المستخدمة في إنتاج الطائرات بدون طيار الهجومية. كما أنه من المتوقع أن تقوم الشركة نفسها بتوريد الصمامات القابلة للبرمجة لقذائف المدفعية عيار 155 ملم إلى أوكرانيا في المستقبل القريب.
كل ذلك يطرح العديد من علامات الاستفهام حول تأثير هذا التعاون على العلاقات الروسية – التركية، ناهيكم عن التكاليف التي قد تتكبدها أنقرة في ظل ترنح النظام الأوكراني.
أهداف استراتيجية
عمل حزب العدالة والتنمية منذ وصوله إلى الحكم على إعادة صياغة السياسة الخارجية التركية، والانتقال من حالة الانكفاء إلى المبادرة والتدخل الإيجابي، ومن التماهي مع أوروبا إلى الانفتاح على البلقان والقوقاز وأفريقيا والشرق الأوسط. من أجل ذلك، قامت أنقرة بتطوير أدوات النفوذ الناعم التي تعينها على إحياء الروابط التاريخية والثقافية مع الدول والشعوب، من بينها دعم الإنتاج الفني الذي برعت تركيا في توظيفه، لخلق حالة تعاطف عارمة مع مواقفها وإيصال رسائل سياسية.
بيد أنَّ العنصر الأهم في هذه الاستراتيجية كان استقطاب الطلاب إلى الجامعات التركية عبر برامج المنح التعليمية التي توسعت فيها حكومات العدالة والتنمية، وفق رؤية تستهدف جذب طلاب من دول عربية وإسلامية وأفريقية، وكذلك دول القوقاز وآسيا الوسطى والبلقان، والتي تتمتع تركيا بروابط عرقية وتاريخية وثقافية معها. ناهيكم عن استقطاب طلاب من الجاليات التركية المنتشرة في أوروبا الغربية.
هذه الاستراتيجية البعيدة المدى تصب في خانة تحقيق عدة أهداف: تعزيز قوة السياسة الخارجية لأنقرة، وفي الوقت نفسه تزيد من انتشار اللغة التركية خارج إطار الحدود الجغرافية، مع ما لذلك من تأثيرات، مثل إحياء المشاعر القومية، والعاطفة التلقائية التي تنمو لدى المتلقين، وتقوية حضور الجامعات التركية في العالم.
وحسب التصور التركي، فإن الطلاب الذين يدرسون في جامعاتها، ولا سيما المميزين بينهم، سيكون لهم تأثير في عملية صناعة القرار السياسي، وقد يتسلم البعض منهم مناصب ومسؤوليات في بعض المؤسسات والمنتديات الدولية. وهؤلاء سيكونون خير معين لأنقرة في تأييد مواقفها، ودعم حضورها كقوة دولية لديها القدرة على لعب أدوار إيجابية على مسرح السياسة العالمية وصراعاتها المعقدة، حيث تطرح تركيا نفسها قوة وسيطة بين الغرب وروسيا من جهة، وبين الغرب ودول الجنوب العالمي.
انزعاج الأوروبيين والجمهوريات السوفياتية
هذه الاستراتيجية التي احتاجت إلى سنوات كي تؤتي ثمارها، بدأت تظهر نتائجها في عدد من الدول الأوروبية، والتي عانت حكوماتها من صعوبات خلال المنازلات السياسية التي خاضتها مع أنقرة، مثل فرنسا وألمانيا وهولندا، خصوصاً أن تركيا استطاعت التغلغل في أوساط الجاليات الإسلامية المحافظة، من خلال إيفاد رجال دين أتراك للخطابة وتدريس الشباب في الجوامع المنتشرة في أوروبا، وكذلك منح العديد من رجال الدين المنتمين إلى تلك الجاليات تقديمات ومنح تعليمية في المدارس الدينية التركية لتحضير الدراسات العليا الإسلامية.
نجاح أنقرة في خلق مشاعر قومية – إسلامية لدى الجاليات التركية والعربية والإسلامية المنتشرة في أوروبا، أصبحت حكومات بعض الدول تتعامل معه كتهديد لأمنها القومي، وعلى رأسها فرنسا التي اعتبر رئيسها، إيمانويل ماكرون، أن الاستراتيجية التركية تصب في خانة تشجيع النزعات المجتمعية الانفصالية. وكذلك ألمانيا التي أقرت تعليم الدين الإسلامي في المدارس الرسمية في بعض الأقاليم والمقاطعات، كي تضمن الإشراف على التوجيه السياسي والثقافي للمناهج التعليمية، وتحد من قدرة تركيا، ومن بعدها إيران، على استغلال حاجة الجاليات المسلمة إلى من يعلم أولادهم أمور دينهم، من أجل توسيع دائرة النفوذ والتأثير السياسي.
هذه الحالة تبدو أكثر تأثيراً في الفضاء الجيوسياسي الروسي، حيث تتواجد أقليات عرقية تركية في العديد من جمهوريات الاتحاد الروسي، وكذلك في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، ناهيكم عن تركيز أنقرة في سياستها الخارجية على هيئات مثل "منظمة الدول التركية"، التي منحتها نفوذاً سياسياً يتنامى بشكل تدريجي.
بيد أن هذه الاستراتيجية بدأت تخلق حساسيات لدى الحكومات الصديقة بسبب تركيز البرامج التي تنفذها تركيا على استثارة الجراح القديمة التي حصلت في عهود غابرة، والانقسامات العرقية التي تسببت في حصول كوارث إنسانية. فمن خلال "عملية التلقين الأيديولوجي" الذي تمارسه تركيا عبر أكاديميين وخبراء متخصصين على الطلاب الذين يدرسون في جامعاتها، فإنها تتوسع في إثارة مشاعر انفصالية تقوض من اندماج الأقليات العرقية ضمن مجتمعاتهم. وتهدف أنقرة إلى دمج الأقليات التركية في تلك الدول والمجتمعات ضمن نفوذها الجيوسياسي، الأمر الذي يشكل تهديداً للأمن القومي والهوية الوطنية والقرار المستقل.
الاستراتيجية الروسية
تشير تقارير إعلامية إلى أن موسكو تعول على أهمية المصالح التي تجمعها بأنقرة، وعلى قدرتها على احتواء هذه التهديدات بشكل ناعم، ولا سيما أنها على بينة من دعم بروكسل وحلف شمال الأطلسي "الناتو" لتوسع النفوذ التركي في الفضاء الجيوسياسي الروسي.
وإذا كان الصراع الأوكراني لم ينجح في إضعاف روسيا، رغم الدعم الهائل الذي حصلت عليه كييف، لا بل إن واشنطن أذعنت لشروط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فكيف الحال بالتهديد التركي الناعم، والذي يمكن لموسكو التعامل معه باستراتيجيات أكثر هدوءاً، خصوصاً أنها تمتلك العديد من أدوات القوة، على رأسها الغاز الذي يعد شرياناً حيوياً للاقتصاد التركي المأزوم، فضلاً عن الاستثمارات في أنابيب الغاز الروسي العابر لتركيا، والعديد من المشاريع المشتركة التي تعول عليها أنقرة كثيراً.
لذلك، تبدو موسكو هادئة تماماً، إلا أن ذلك لا يمنعها من إيصال بعض الرسائل السياسية إلى أنقرة عبر الإعلام، للضغط عليها من أجل تهدئة اللعب، والحفاظ على دورها كوسيط عالمي، الذي يخدم الأهداف الجيوسياسية الروسية، كما هو حاصل في أوكرانيا وسوريا ومناطق أخرى. علاوة على أهمية التعاون بين الجانبين في قضية الإرهابيين الإسلاميين المتحدرين من دول آسيا الوسطى، الذين يستخدمهم الغرب لتهديد الأمن القومي الروسي، ضمن مسعاه لخلق حالة عداء بين روسيا والعالم الإسلامي، تحرف الاهتمام عن غرقه في المستنقع الأوكراني.
تبقى الرسالة الروسية الأهم لأنقرة، وهي عدم الذهاب بعيداً في التعاون مع حكومة زيلينسكي في ظل ارتفاع مؤشرات هزيمته الوشيكة بعد توقف "أوكسيجين" الدعم الأميركي، لأن ذلك رهان على حصان خاسر يضعها في موقف حرج على الصعيد العالمي، ويعرض استثماراتها السياسية للخطر، ناهيكم عن الخسائر المالية. فنجاح روسيا في تحقيق غاياتها ومواصلة جيشها تقدمه الميداني يرسل إشارات سلبية للغاية حول فعالية الصناعات العسكرية التركية تقوض من إمكانية تسويقها.