: آخر تحديث

تركيا توسع نفوذها في الجيوبوليتيك الروسي

5
5
3

بعيد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأت تركيا في عهد رئيسها تورغوت أوزال تولي أهمية في سياستها الخارجية لمد نفوذها داخل الجيوبوليتيك الروسي من خلال الانفتاح على المجتمعات والشعوب والأقليات التي تنتمي إلى العرق التركي، والموزعة على العديد من البلدان في القوقاز وآسيا الوسطى.

أدوات النفوذ التركي الناعم
بعدما نجحت أنقرة في تأسيس قنوات تواصل، انحسر هذا الاهتمام عقب وفاة أوزال حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، والذي صاغ رؤية جيوسياسية تهدف لإخراج تركيا من جغرافيتها الضيقة، حسب توصيف رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان وعدد من أبرز منظري حزبه، في القلب منها المجتمعات التركية، والجاليات المنتشرة في أوروبا، وذلك عبر هيئة رئاسية تحمل اسم "رئاسة أتراك المهجر والمجتمعات ذات القربى" والتي تعرف اختصاراً بـ "YTB".

تأسست هذه الهيئة عام 2010 بمرسوم رئاسي حمل رقم 5978، وتعتبر من أبرز أدوات النفوذ التركي الناعم، إلى جانب الهيئة العامة لوقف الديانة "ديانت"، ورئاسة إدارة الكوارث والطوارئ "آفاد"، ووكالة التعاون والتنسيق "تيكا"، وجميعها كانت تتبع لرئاسة الوزراء، ثم صارت تتبع مباشرة إلى رئاسة الجمهورية غداة تحول أنقرة إلى النظام الرئاسي.

تتكون "YTB" من ثلاثة أقسام رئيسية: المجتمعات الشقيقة – الجاليات أو المواطنون الشتات – الطلاب الدوليون. وحسب التعريف الرسمي، تعمل هذه الهيئة على "تنفيذ سلسلة برامج تشمل مختلف المجالات التعليمية والأكاديمية والثقافية والإعلامية والفنية والمجتمع المدني، بطريقة تساهم في تحقيق أهداف السياسة الخارجية على المدى القصير والمتوسط والطويل. وقدمت مساهمات كبيرة في السياسة الخارجية لبلدنا وقوتها الناعمة ودبلوماسيتها". وتتضمن الأنشطة إجراء دراسات خاصة بكل بلد ومنطقة، توظفها أنقرة لإحياء التراث القومي التركي – الإسلامي من أجل دمج المجتمعات المستهدفة ضمن نفوذها الجيوسياسي، وتركز بشكل خاص على القوقاز وآسيا الوسطى، والهدف من وراء ذلك توسيع نفوذ أنقرة في روسيا وفضائها الجيوسياسي وزعزعة استقرارها.

برامج ودراسات لتعزيز النفوذ
تشير تقارير إعلامية إلى وجود صلات مستترة ونفوذ لمعهد ماساتشوستس الأميركي على الهيئة التركية، وأنها تدعم "عملية التلقين الإيديولوجي" للمهاجرين من منطقة شمال القوقاز الفيدرالية الذين يدرسون في الجامعات التركية. وتشرف "YTB" على استقطاب طلاب عبر برامج للمنح مدعومة حكومياً. وحسب موقعها جرى إطلاق برنامج "المنح الدراسية التركية" عام 2012، وشمل عدد الطلبات نحو 42 ألف، ليصل عام 2024 إلى نحو 122 ألف من 170 دولة.

يولي ممثلو هذه الهيئة اهتماماً خاصاً بالطلاب الأوائل الذين يدرسون في جامعة اسطنبول وجامعة مرمرة وجامعة يلدز التقنية، والتي تعد من أبرز مؤسسات التعليم العالي في تركيا، حيث يركز أعضاء "YTB" الذين يدرسون في الجامعات الثلاث على وجه الخصوص على إشراك الروس من أبناء القوقاز في أنشطة المنظمات التركية ذات التوجه القومي، مثل "جمعية شمال القوقاز بجامعة اسطنبول" المعروفة بـ "IUKAF"، ولجنة الشباب في "منظمة الشعوب القوقازية في اسطنبول" المعروفة باسم "IKKD GENÇ"، و"مجتمع طلاب شمال القوقاز في جامعة يلدز التقنية" المعروف باسم "YILDIZKAF"، وجناح الشباب في منظمة "الشركس القوقازيين في اسطنبول" المعروف باسم "KCD GENÇLİK"، و"مجموعة العمل القوقازية في جامعة مرمرة" المعروفة باسم "MARKAF". يهدف هذا الاستثمار التركي البعيد المدى إلى ضمان بقاء هذه النخب ضمن دائرة نفوذها الجيوسياسي حينما تعود إلى بلادها وتتولى مناصب قيادية ضمن هرمية السلطة.

اهتمام بالأقليات التركية في القوقاز
تبين التقارير بأن جميع هذه الهياكل والمنظمات يتم تمويلها من قبل "صندوق القوقاز" التركي (KAVKAZ VAKFI). تعقد هذه المنظمات اجتماعات منتظمة وتنفذ برامج ونشاطات علمية وثقافية، وتتناول بشكل خاص قضايا "الإبادة الجماعية" لأتراك القوقاز خلال حكم الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي، فضلاً عن الوضع الحالي للأقليات القومية في روسيا. وفي هذا الإطار، أنجزت وحدة الدراسات في "YTB" دراستين مؤثرتين ضمن عملية تعزيز روابط المجتمعات التركية مع وطنهم الأم.

الأولى عام 2019، التاريخ الشفهي لشبه جزيرة القرم، والتي تتناول من منظور تركي آلام المنفى التي عاشها تتار القرم عام 1944، ضمن سياسات الاضطهاد التي طالت العديد من الأقليات في تلك الفترة لأسباب سياسية وعسكرية تتصل بالحرب العالمية الثانية وتحالفاتها، وتوثيق تجاربهم لنقلها إلى الأجيال القادمة. والثانية دراسة "المنفى المسخيتي" عام 1944، والتي تتناول الأتراك الذين كانوا يعيشون في إقليم "المسخيت" أو "الأهيسكا" جنوب جورجيا، وتعرضوا للنفي، ويقدر عددهم بنحو 95 ألف شخص، ولم تعترف جورجيا بحقوقهم حتى اليوم، رغم كونها موالية للاتحاد الأوروبي، الذي اشترط عليها هذا الاعتراف ضمن آليات وشروط انضمامها إلى عائلة بروكسل. ويعيش أتراك المسخيت اليوم في تركيا وروسيا وبعض بلدان آسيا الوسطى، ويحظون باهتمام بارز من الحكومة التركية.

في أيلول (سبتمبر) 2023، التقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وفداً من أتراك المسخيت على هامش مشاركته في اجتماعات الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، وأكد أن بلاده تعمل على تسريع منحهم الجنسية التركية، وأنها ستواصل الدفاع عن حقوقهم في كافة المحافل الدولية. وبين إردوغان أنه غداة اندلاع الصراع في أوكرانيا، قامت أنقرة بالتنسيق مع كييف بنقل "إخواننا الأهيسكا" إلى بلدنا، وبلغ عددهم قرابة 4 آلاف. وحسب تصريحات وزير الخارجية التركية الأسبق، مولود تشاويش أوغلو، بلغ عدد الأتراك المسخيت الذين منحوا جنسية وطنهم الأم حتى نهاية 2021 نحو 100 ألف شخص.

أنشطة خطرة على الأمن القومي الروسي
إلى ذلك تدعو أنشطة "YTB" إلى ضرورة تطوير الحوار وتعزيز العلاقات بين سكان منطقة شمال القوقاز والشعب التركي الشقيق، كما يتم تلقين الطلاب عقيدة جديدة من أجل إعادة توجيههم بما يخدم أهداف أنقرة الجيوسياسية البعيدة المدى، والهدف الأساس هو إقامة علاقات مستدامة للأقليات التركية مع الوطن الأم، الأمر الذي تجد فيه حكومات بعض الدول، ومنها حليفة لتركيا، تقويضاً للهوية الوطنية وإحياءً للنزعات الانفصالية، أو الهويات القومية.

ومنها روسيا التي رغم تحالفها الوثيق مع تركيا، وتشجيعها كل السياسات والبرامج التي ترمي إلى تعزيز الحوار والعلاقات المجتمعية، إلا أنها تنظر بعين الريبة إلى أنشطة الهياكل التركية، وخصوصاً "YTB"، وتركيزها على الأقليات التركية في الجمهوريات المستقلة المنضوية ضمن الاتحاد الروسي، والتي ترى أنها تصب في خانة زعزعة بنية المجتمع الروسي. ذلك أن الخصوصيات الإثنية والمجتمعية والثقافية التي تعتبرها موسكو من عوامل الثراء الحضاري والتاريخي لا يمكنها أن تتحول إلى تهديد لوحدة الأمة الروسية بكل مكوناتها.

وترى موسكو أن أنقرة تستخدم أدوات النفوذ الناعم من أجل بناء عقيدة سياسية تابعة لها في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، وأن تحصل على دعم وتشجيع حلف شمال الأطلسي ضمن سياسته الرامية إلى إضعاف روسيا بكافة السبل الممكنة. أكثر من ذلك، نجحت أنشطة "YTB" والتمويل الحكومي في اجتذاب عدد من الروس من خارج دائرة الأقليات العرقية التركية، حيث يتم المساعدة لممثلي بيئة الشباب الذين لا يدعمون العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وذلك من خلال تسجيلهم في الجامعات التركية من أجل الحصول على تصريح الإقامة. وبذا تؤسس تركيا لقاعدة رأي عام روسي مناهض للحكومة وسياساتها، بما يعرض الأمن القومي الروسي للخطر.

تأسيساً على ما سبق، تضع المؤسسات الحكومية الروسية أنشطة "YTB" وسائر الأذرع التركية الناعمة في مناطق النفوذ الجيوسياسي الروسي تحت مجهر المتابعة، ولا تتوانى موسكو عن إبلاغ أنقرة بتحفظاتها حيال هذه الأنشطة وأهدافها، مع حرصها على عدم تأثير ذلك على تطور العلاقات الثنائية بين البلدين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف