لم يمشِ العرب خطى مثلما مشوا على خطى التحريم والتدنيس. وتلك فكرة استقرت في أذهانهم معياراً لوجودهم. ولم يكن التحريم في أساس تفكيرهم ذا منشأ إسلامي، فله جذوره في الذاكرة الجاهلية، إذ ورد لفظه في أقدم شعرها، ومنه قول الشنفرى: (ولا تقبروني إن دفني محرمٌ عليكم ولكن أبشري أم عامر). وعبرت مدلولات التحريم ثقافياً مفهومها العرفي والتشريعي. وكان العبور في الثقافة الحديث أكثر انحرافاً عن المعيار الخلقي، إذ صار يحمل مدلولاً معياراً للحداثة الفكرية. وبات تعبيرياً ذمياً لديهم، لأنه تعبير عن محتوى تابو تقديسي في مفهوم الحداثة. وهو مؤشر على قيد التفكير الحر. وبذلك حمل في أسيقتهم الثقافية دلالة على تدنيس الفكر التحرري. وبموازاة هذا التيار نشأ مدلول تقديسي. وانطوى هذا المفهوم على دلالة صراع ثقافي بين الثابت والمتحول العقلي، وبين القيد والانطلاق في التفكير، وبصورة أدق بين الفكر الديني والفكر السياسي.
والمحرم في الفكر السياسي السلطوي العربي هو مدلول سياسي يتحصن بظلال دينية، تعتمد تأويلات للاجتهاد الديني في تكفير الخروج على الحاكم وتأثيمه. ولعنة التحريم في ذهنية السلطة العربية مكتسب عقلي أصيل ثقافياً، لأنه ينشأ فكرياً من آليات الدفاع النفسي عن مكتسب السلطة، بوصفها ملكية وحقاً شرعياً مقدساً.
لقد كانت الدولة بمفهوم المؤسسات الوضعية المكيفة مع نماء حركية المجتمع والظروف المستجدة عقدة أزلية عانتها المجتمعات العربية في مختلف الأطوار التاريخية لتشكلها.
لم تستطع العروبة - على ما فيها من مكونات قومية تاريخية - أن ترتقي إلى مفهوم القومية وفق نموذج نشأتها الأوروبية التليدة، والأميركية الحديثة.
فقد هيمن على الفكر السياسي العربي مفهوم المنتمي القبلي المتجمد، واللامنتمي القومي الحيوي المؤسساتي. وكانت النفس العربية - المستنقعة حتى الثمالة في تابو طوابع الإباء - عصية على الترويض والانضباط التنظيمي الاستراتيجي في آفاق الحياة. فالعرب ذهنياً أكثر ألفة للروح العصبية القبلية التي تقيدها عصبة الدماء العرقي لا الانتماء الفكري. ولم تخضع هذه الذهنية لزعزعة في نمط تفكيرها العصابي القبلي إلا في مرحلة النبوة، من غير استئصال مؤثراتها تماماً على بنية العقل العربي. وما لبثت أن عادت لترفع رأسها بعد انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى. فأطلت القبلية برأسها من جديد في واقعة السقيفة. إذ ارتأى المسلمون أحقية شرط الانتماء القرشي للخلافة. وهو شرط قبلي تخطى مبادئ الإسلام في عمق تكوينه العقلي الذي جعل الأفضلية للتقوى لا للعرق.
ومتتبع تاريخ نشأة الخلافة فيما بعد الأموية والعباسية، يجد أن شرعية الخلافة قامت على الانتماء القبلي ووراثته.
ويبرز في هذا السياق نشأة الخلافة في الأندلس، إذ كانت صريحة في إعلان أحقية الأمويين في الحكم. ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن كلّ أشكال الحاكمية العربية اعتمدت على مبادئ النظام القلبي الذي يقوم على الزعامة والفردية والوراثة، والأعراف التي تتخطى التشريع الإسلامي للحكم. إذ تكون الأعراف الأقوى في الأحكام.
إقرأ أيضاً: متى يصوّب الكاوبوي رصاصه على أحلامه الهرمة؟
وقد كانت الحركات المناوئة للحاكمية العربية التقليدية، ومهما ادعت الثورية على الحكم القائم ومظلوميتها عليه، كانت ترتدي عباءة الحكم، ولكن بالمقلوب، فهي ردة فعل من جنس الفعل التي قامت عليه. فلم تشكل نقلة نوعية في نمط الحكم، وهيكلية الدولة وبنيتها، بل كانت تهدف إلى استبدال الحاكم لتحل محله، وتعيد نمط حكمه.
لقد أخفقت كل تجارب العرب في أطوار ما بعد الاستقلال في بناء دولة حديثة ذات مؤسسات فعلية أساسية في الحكم تؤمن بتداول السلطة. على الرغم من أن معظم هذه الدول عاشت في ظلال احتلال أوروبي حمل ثقافة الدولة المؤسساتية. وما إن اتسعت حركة القوميين العرب في استيراد نماذج القومية الأوروبية حتى دجنتها بالطابع القبلي للحكم، وهي في أساس استيرادها النمط القومي الأوروبي كانت تهدف إلى كسر الطوق الإسلامي لنمط الحكم على ما فيه من تجاوز للإسلام، والتصاق بشخصية الحاكم. إذ نشأت حركة القومية العربية من فكر التجار المسيحيين الذين رأوا في القومية كسراً لقيد احتكار السلطة الإسلامية لنمط التجارة والاقتصاد والنفوذ السياسي، شبكة أعصاب قوة الاقتصاد.
ولم تخترق الدول التي تشكلت فيما بعد الاستعمار حصن النمط القبلي في الحكم الذي يرتكز إلى الزعامة والحكم المطلق والمؤسسات المرسخة للحكم خادمة السلطة الأمينة.
إقرأ أيضاً: هل تشرب الشاي يا قاسيون؟
وتكاد تكون الثورات الوطنية التي قامت على تبني وظيفة تحررية صورة طبق الأصل لما سبقها من سلطات. فما إن وصلت إلى الحكم حتى تمسكت بالسلطة متبعة نهج الحاكمية التي ثارت عليها. ويماثلها في الفعل الحركات الإسلامية الثورية التي نشأت في ظل إخفاق الحركات القومية والعلمانية. وكان أبرز صور هذه الحركات الإخوان المسلمون التي تبنت نمطاً ظاهرياً يستمد نظام الحكم من نظرية حسن البنا التي تقوم على أركان عشرة للبيعة وهي: الفهم والإخلاص، والعمل والجهاد، والتضحية والطاعة، والثبات والتجرد والأخوة والثقة. وفي الممارسة الحقيقة السلطة، جسد الركن الأخير مفهوم الولاءات لا الكفاءات. فطابق حقيقة السلطة القائمة. على الرغم مما في الأركان الأخرى من أصول جديرة ببناء سلطة راشدة. إلا أن الركن العاشر أفرغ في الممارسة مضامين الرشد فيما سبق من أركان. وقد عانت هذه الحركة من قمع وتحريم ما وقع مثله إلا على الحركات الجهادية. وكانت المفارقة في محاربتها أن ينطوي دحضها على تحريم محاط بظلال دينية. أي قام تحريمها طبعاً بالمعنى السياسي على التشكيك بمحتواها الديني ووصفها بالإرهاب والتكفير والعمالة والتطرف. مما أسبغ على تحريمها السياسي شرعية مزيفة، لكنها تلقى استجابة عالمية منحت السلطات العربية شرعنة محاربتها وتحريمها. وفق هذا السياق لم تزل حتى اللحظة الراهنة الدولة الديمقراطية الحديثة محرمة، كذلك الأمر دولة الثورة الوطنية، ودولة الحركة الإسلامية والجهادية.
ولا حياة لدولة في الجغرافية العربية إلا للدولة المهجنة من القبلية، ومن غير شك ستبقى غير آمنة، لأنها قائمة على الخوف من البقاء الاستراتيجي. فهي عدوة التغيير، وكما يقول داروين: (البقاء ليس للأقوى، أو الأكثر ذكاء من الأجناس، لكنه للأكثر تجاوباً وتكيفاً مع التغيير). والدولة العربية الراهنة تعيش في صراع بائس فاشل مع نزعة بقاء السلطة، ولا تتخلص من عوامل زوالها، وكأن نزعة السلطة عند العرب تدخلهم في تنويم مغناطيسي للتغيير، والارتخاء للعيش في أضغاث أحلام السلطة، فهم يثقبون سفينة البقاء ويستقلونها.