محمد ناصر العطوان
في قلب القرن التاسع عشر وتحديداً في عام 1860م، حيث كانت إنكلترا في أوج توسعها الاستعماري لنهب ثروات الشعوب في ظل حكم الملكة فكتوريا، وفي ظل حدوث تغيُّرات اجتماعية نتيجة الثورة الصناعية والهجرات من الريف الإنكليزي للمدن، وعندما كان المجتمع الإنكليزي مُقسماً طبقياً بشكل ملحوظ بين الأرستقراطية والعاملة والوسطى التي تنمو بسرعة... بدأت تظهر سلوكيات غير سوية من «الهيلق» الإنكليز القادمين من الريف والوديان وأعالي الجبال والمنخرطين في الطبقات الوسطى المحتكة بالطبقات الأرستقراطية في المدن... فكان لا بد من حل جذري لهذه المسألة، حيث إن الأناقة واللباقة جزء لا يتجزأ من حياة المرأة الراقية في إنكلترا، ولذلك ظهر كتاب «الإتيكيت للسيدات: ودليل اللباقة» للكاتبة فلورنس هارتلي، ليقدم دليلاً شاملاً للسيدات حول كيفية التصرف بلباقة ورقي في مختلف المواقف الاجتماعية.
كانت هناك محاولات قبل هذا الكتاب لنشر «الإتيكيت» ومنها على سبيل المثال كتاب «الليدي غوغو» والذي كانت أهم نصيحة فيه أن يتم التفريق بين كتب المؤلفين الذكور وكتب المؤلفات الإناث في المكتبة المنزلية، ولا يتقارب كتابان إلا إذا كان بين مؤلفيهما صلة زواج أو قرابة!
وأشياء أخرى غريبة كانت تُكتب على اعتبارها من الإتيكيت ولكنها في الواقع كانت تمثل وعي صاحبها وتربيته في بيته وليس الحس المشترك للهوية الإنكليزية الجمعية.
وهذا ما يميز الكتاب الذي نعرضه لك اليوم عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، كونه كتاباً نجح في ملامسة الحس الإنكليزي وليس ملامسة التصورات الشخصية عن الحس الإنكليزي.
لذلك عندما نشرت فلورنس هارتلي، وقتها في إنكلترا، قيل إنه وحدت المعايير الاجتماعية المقبولة للسلوك الإنكليزي، وأي شخص كان يخالف هذه المعايير كانوا يعتبرونه من «هيلق» الإنكليز.
فيما يتعلق بالتصرفات الاجتماعية فقد وجه الكتاب - الدليل لفن التواصل والزيارة، حيث وضع ممارسات تُعلم السيدات فن التصرف في المناسبات الاجتماعية بدقة، ففي الحفلات، كان من المتوقع أن تتحدث السيدة مع المضيف بلباقة، وتقدم الشكر عند المغادرة، مما يعكس احترامها وتقديرها للضيافة، أما خلال الزيارات المنزلية، فقد كان من المهم تحديد مدة الزيارة بحيث لا تكون طويلة جداً، وإحضار هدية رمزية للمضيف تعبيراً عن الامتنان.
وفي زمن كانت فيه الرسائل وسيلة الاتصال الرئيسية، نصح الدليل باستخدام ورق كتابة عالي الجودة وكتابة الرسائل بخط واضح ومنظم، وكانت التحية والختام جزءاً أساسيا من الرسالة، حيث يُفضل استخدام عبارات مثل «عزيزتي السيدة» في البداية و«مع أطيب التمنيات» في النهاية.
فيما يتعلق بالمظهر، شدد الكتاب على أهمية اختيار الملابس المناسبة لكل مناسبة. ارتداء الفساتين الرسمية في الحفلات والمناسبات الخاصة كان يُعتبر علامة على الذوق الرفيع، كما أن العناية بالنظافة الشخصية، كالحفاظ على نظافة اليدين والأظافر واستخدام العطور بشكل معتدل، كانت تُعتبر من أسس الأناقة.
إما في الجزء المتعلق بالمحادثات، كان التحدث عن الفنون والكتب والمواضيع الثقافية العامة وكتب تشارليز ديكنز، واشعار جورج أليوت، يُعد من الأمور المرغوبة، بينما كان يُنصح بتجنب الحديث عن الدين أو السياسة، واشار الدليل إلى أهمية الاستماع الفعّال أيضاً، حيث يُظهر الاهتمام بالكلام الذي يقوله الشخص الآخر دون مقاطعته، وهو ما يعكس الاحترام والتقدير، ومن النصائح المذكورة في الدليل «لكي تكوني قادرة على التحدث جيداً، يجب أن تقرأي كثيراً، وتحتفظي في ذاكرتك بخلاصة ما تقرأين، يجب أن تكوني قادرة على الفهم السريع، ومراقبة الأحداث العابرة، والاستماع باهتمام كلما أتيحت لكِ أي فرصة لاكتساب المعرفة».
في الأماكن العامة، الحفاظ على هدوء الصوت وتجنب التحدث بصوت عال جزءاً من السلوك المهذب، واستخدام الألفاظ المناسبة وتجنب اللغة العامية كانت تعتبر من سمات السيدة المهذبة والراقية.
«كتاب الإتيكيت للسيدات: ودليل اللباقة» بنسخته الإنكليزية، والذي ترجم للعربية تحت عنوان «اتيكيت الهوانم» كان ولا يزال مصدراً قيما للتوجيهات حول كيفية العيش بلباقة، على الرغم من التغييرات الكبيرة التي شهدها العالم منذ نشره، إلا أن المبادئ التي يحتويها لا تزال تحمل أهمية كبيرة في تعزيز التفاعل الاجتماعي الراقي، إن الأناقة واللباقة ليست مجرد مظاهر خارجية، بل هي تعبير عن احترام الذات والآخرين، وهو درس يتجاوز حدود الزمن... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.