حظي طفل تونسي في الثالثة من عمره بشهرة واسعة النطاق على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، لا بسبب نبوغه العقلي ولا مهاراته الإبداعية، ولكن بسبب قدرته الغريبة على إتقان اللغة الإنجليزية بنفس مستوى الناطقين بها.
ربما يعود التحدث باللغة الإنجليزية بالنسبة إلى شخص عربي بالغ ومتعلم، بمكانة إنجاز استثنائي، أما الهالة التي أحاطت بالطفل التونسي أمير، الذي يبدو كما لو أنه تعلم الإنجليزية وهو لا يزال في رحم أمه، فكانت بالنسبة لوالديه فرحة وصدمة كبيرتين في آن واحد، فهما أبوان لطفل يتحدث اللغة الإنجليزية بسلاسة وكفاءة وهو لم يبلغ الرابعة من عمره، وفي موضوعات شتى ودون تعلم مسبق، ولكنهما للأسف لا يفهمان ماذا يقول، ومن الصعب عليهما مجاراته والتحدث بلغته.
الآلاف من الكلمات الإنجليزية والتراكيب المختلفة يستخدمها الطفل التونسي من دون أن تطأ أقدامه المدرسة أو يعيش خارج بيئتة الأصلية أو يشاهد البرامج الإنجليزية، كافية لأن تصيب المحيطين به بالذهول وتجعلهم معقودي اللسان عندما يحاولون الرد على تساؤلاته ومشاركته أطراف الحديث، فهم لا يجيدون لغته المنطوقة ولا يعرفون من أين استقاها ولا من علمه إياها.
أسرتني قصة هذا الطفل بعد أن شاهدت الفيديو المتداول عدة مرات على مواقع التواصل، وجعلتني القصة أقوم ببحث موسع على الإنترنت وأغوص في دوامة من الدراسات والنظريات، علي أفهم أصل حكاية "المعجزة الربانية" أو "الموهبة الفطرية" للطفل التونسي، الذي استفاق أهله بين عشية وضحاها ليجدوه بلبلا يغرد بالإنجليزية، رغم أن العقل والمنطق، يرجحان أن مثل هذا الأمر لا يصح غالبا إلا في زمن الأنبياء والمعجزات الذي ولى وانتهى.
من المعروف أن الطفل لا يستطيع تعلم أية لغة والنطق بها كلغته الأم، إلا إذا سمعها وتدرب عليها لساعات طويلة يومياً، فإن لم يتوفر للطفل متحدث يجيد الإنجليزية باعتبارها لغته الأم، فإن مشاهدته للأفلام والبرامج التلفزيونية الناطقة بالإنجليزية، يمكن أن تفي بنفس الغرض.
ومعظم الأطفال اليوم يقضون سنوات تكوينهم الأولى أمام الشاشات، ويترعرعون في ظروف القرن الواحد والعشرين الفريدة، المتمثلة في توافر التكنولوجيا التي تربط الناس في كل أنحاء العالم، وتنوع سكان العالم ثقافياً على نحو متزايد، وظهور التطبيقات التعليمية والألعاب ذات الطابع الشخصي، وربما يعكس كل هذا حقائق جوهرية عن نظرية تشرّب الأطفال للغة كالإسفنجة.
إقرأ أيضاً: تونس تحتاج سياسِيين لا عبثيين!
على أي حال، هناك دراسات حديثة أشارت إلى ما يعرف بـ "فترة الصمت" وهي أول خطوات تعلم الأطفال للّغات، ويتم ذلك عبر المشاهدة والاستماع، ومن ثم ترديد الأصوات داخل العقل.
ويمكن للطفل التمييز تدريجياً ببعض المفردات وطريقة لفظها وتركيبها، ويحدث ذلك خلال فترة الصمت هذه، فيتعلّم بأذنيه قبل النطق بشفتيه والبدء بممارسة الحديث.
أما بالنسبة لظاهرة تكلّم الأشخاص فجأة بلكنة أجنبية، لم يتعلموها من قبل، ولا تمت بصلة لبيئتهم الأصلية، فربطها البعض من الخبراء باضطراب عصبي نادر يُسمَّى "متلازمة اللكنة الأجنبية "FAS وتُعَد السكتة الدماغية بجانب بعض الإصابات الأخرى للدماغ أقوى أسباب هذه الحالة.
إقرأ أيضاً: ثروات "سبام" ولا في الأحلام
غير أن عالم النفس الأميركي ستيفن بينكر وضعنا في متاهة كبيرة حينما قال في "كتابه غريزة اللغة: كيف يخلق العقلُ اللغةَ" إن "الناس لا يفكرون باللغة الانجليزية أو الصينية أو حتى لغة البرمجيات، بل يفكرون بلغة الفِكر (أو ما نطلق عليه المنتاليس)… إذن فإتقان اللغة هو القدرة على ترجمة لغة الفكر إلى سلسلة من الكلمات أو العكس".
هذه المقولة ربما تميط اللثام عن أشياء أكثر بكثير من تلك التي نرغب في قولها أو نريد الإفصاح عنها باللغة، بل قد تكون كافة اللغات منحدرة عن سلف واحد، أو ربما هي تطورات لنفس اللغة.
ولهذا السبب لا يزال العلماء مذهولين إزاء قوله تعالى في سورة البقرة "وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين".