: آخر تحديث

وداعًا أيها السلاح: لو عاد همنغواي حياً ماذا كان سيكتب؟

1
1
2

رواية "وداعًا أيها السلاح" لأرنست همنغواي ليست سردًا تقليديًا عن أهوال الحرب، بل هي تفكيك صامت لأسطورة الإنسان الجندي، واستنطاق عميق للفراغ الوجودي الذي تخلفه البنادق بعد أن تصمت. في هذا العمل، لا تكون الحرب مجرد سياق، بل تتحول إلى بنية تحتية للمعنى، وفضاء تتعرى فيه هشاشة الإنسان أمام آلة لا تعترف بالعاطفة أو بالمنطق.

يقف بطل الرواية، فريدريك هنري، على تخوم التعريفات: ليس جنديًا تمامًا، ولا عاشقًا خالصًا. إنه شخصية تتجول بين الأنقاض النفسية التي تخلفها المدافع، وتحاول إعادة بناء ذاتها وسط مشهد لا يمنح سوى الفقد. الحرب في الرواية لا تفتح المجال للبطولة، بل تغلقه تمامًا. ومع ذلك، لا تموت الشخصيات فجأة، بل تذوي على مراحل، كما لو أن الزمن نفسه يشارك في عملية المحو.

هنري ليس ضحية الجبهة فحسب، بل ضحية معنى غائب. خياراته ليست بطولية، بل اضطرارية، وهو ما يجعل تحركاته أقرب إلى ردود الفعل منها إلى الأفعال. حتى حبه لكاثرين لا ينبثق من رغبة رومانسية، بل من حاجة للبقاء، ولو كان ذلك على هيئة وهم مشترك.

الحرب كأرضٍ خصبة للعدم
لا تقدم الرواية تفسيرًا للحرب، بل تفضح عجز اللغة عن احتوائها. همنغواي لا يكتب عن الانتصار أو الخسارة؛ إنه يكتب عن الفراغ الذي يخلفه الرصاص في النفس، وعن الطين الذي يبتلع الأقدام والأحلام معًا. كل ما في الرواية يتحرك باتجاه التفكك: العلاقات، المبادئ، وحتى الزمن، الذي يفقد خطيته لصالح التكرار المرير للموت والانتظار.

الغرف البيضاء في المستشفى ليست أماكن شفاء، بل نقاط توقف مؤقتة بين طلقتين. لا نجد فيها شفاءً بقدر ما نجد محاولة يائسة لتجميل جراح لا تندمل. هكذا تشتبك الحرب مع الوجود البشري، لا بوصفها معركة، بل كمنظومة عمياء تفرض على الإنسان أن يتخلى عن ملامحه قطعةً قطعة.

السلاح: من أداة إلى قدر
في هذه الرواية، لا يُعامل السلاح بوصفه أداة، بل كعنصر سردي له كيانه الرمزي. لم تعد البندقية وسيلة قتالية فحسب، بل أصبحت معادلًا موضوعيًّا لحالة الاستسلام أمام قوى كبرى تتجاوز الإنسان. الطلقة لم تعد بداية لمعركة، بل علامة نهاية متكررة. وبذلك، يصبح السلاح تمثيلًا لمصير لا يملكه أحد، حتى من يمسك به.

ليست الرواية وداعًا للسلاح بالمعنى الحرفي، بل وداعًا لفكرة إمكانية الحياة بعد أن يقتحمها السلاح. العنوان إذًا، هو مفارقة: كل محاولة لتوديع الحرب تقود إلى شكل جديد منها.

الحب كمهرب خادع من الحطام
علاقة فريدريك بكاثرين، التي قد تبدو في ظاهرها تعويضًا عن دمار العالم الخارجي، تتكشف مع الوقت كملجأ مؤقت لا يحمي من السقوط، بل يؤجله. الحب في "وداعًا أيها السلاح" ليس خلاصًا، بل تجربة هشّة، تحكمها القابلية الدائمة للانهيار. لا يتحقق فيه الشفاء، بل يُعاد إنتاج الفقد من زاوية أخرى.

كاثرين ليست حبيبة تقليدية، بل هي استعارة للسلام الذي لا يأتي، أو يأتي على هيئة موت ناعم لا صوت له. عندما تموت، لا يموت الحب فقط، بل يموت معه أي احتمال للخروج من الجبهة دون ندوب.

سؤال ما بعد الحرب: هل يمكن حقًا الوداع؟
لا تنتهي الرواية بجواب، بل بفراغ. إذ تتركنا أمام سؤال ملغوم: هل يمكن للإنسان أن ينجو من الحرب، أم أنه يحملها داخله أينما ذهب؟ إن توديع السلاح في هذا السياق، هو توديع للمعنى، أو على الأقل، لليقين الذي كان يمنح الإنسان وهم السيطرة.

"وداعًا أيها السلاح" إذًا، ليست رواية عن الحرب، بل عما تتركه الحرب فينا بعدما تمر، وها نحن الآن، في ذروة المعاناة والتبعات المفتوحة. إنها دعوة للإنصات إلى الصمت الذي يعقب الضجيج، حيث تكمن الحقيقة الوحيدة: لا أحد يخرج من الحرب حيًّا تمامًا، حتى لو لم يسقط جسده.

لو عاد همنغواي الآن…؟!
ولو نهض همنغواي من قبره في كي وست-  فلوريدا، حيث ترقد رفاته منذ أكثر من نصف قرن، ونظر إلى عالم اليوم، لرأى كابوسه وقد تَحوَّل إلى واقع أشد قتامة: الكراهية مضاعفة، والثأر مضاعف، والسلاح لم يعد مجرد قطعة حديد، بل صار منظومة ذكية تستهدف من بعيد، وتقتل من دون أن ترى من تقتل. في زمن الطائرات المُسيّرة والذكاء الاصطناعي القاتل، ربما لم يكن همنغواي ليكتب "وداعًا أيها السلاح"، بل "مرحبًا أيها الوحش".

ربما كان ليصمت، أو يختار منفى داخليًّا أعمق من أي جبهة، حيث لا مجال للكتابة حين يغدو الخراب هو اللغة الوحيدة المفهومة. فالحرب، التي صوّرها بوصفها تشوهًا فرديًا للعالم، أصبحت اليوم نظامًا معولمًا يتغذى على كل ما تبقى من إنسانية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات