" لا توجد قصص. هناك حالات فقط، بدون ذيل أو رأس، بدون مكان أو اتجاه، يمكنك النظر إليها في كل الاتجاهات. إبهار، إبهار صرف، تنقّل متقطع. أحب الأفلام لا تلك التي لا يحدث فيها شيء، ولكن لا يحدث شيء ذو بال" ـــ جان إبستين
إيلاف من العراق: هذه ليسَتْ سينما، إنّما نزهةُ فأسٍ في شجرةِ «لوميير المقدسةِ»، الصورُ فيها تُرتجلُ كتنديدٍ ومواجهةٍ لتراثٍ بصريٍّ اعتدْنا على استقبالِهِ بتواطؤٍ مع الممكنِ، في حينِ السينما لدى «فيرا شيتيلوفا» شغفٌ تدميريٌّ للسينما نفسِها؛ لكونِها ترى في التدميرِ الفنيِّ محاولةً في النفاذِ إلى الجوهرِ الوجوديِّ للفنِّ، وتأتّى هذا ممّا راكمَتْه من ثقافةٍ مضادةٍ تمتاحُ من الدادائيةِ صلابةَ رهانِها على ضرورةِ سينما عاريةٍ من أثوابِ التلقي الرسميِّ ـــــــ التي درجَتْ العادةُ على التطبيلِ لارتدائِها من قبلِ صانعي الأفلامِ، كأنّ «شيتيلوفا» بذلك تسعى إلى إعادةِ صياغةِ سؤالِ الشاعرِ والمفكرِ الدادائيِّ «تريستيان تزارا»، لماذا التخريبُ؟ وأيُّ نتائجَ مرتجاةٌ من ذلك؟ ومعلومٌ أنّ أسئلةً من هذا النوعِ لا ينبغي البحثُ عن إجابةٍ جاهزةٍ لها؛ ذلك لأنّنا سنكونُ أمامَ فعلٍ إبداعيٍّ يتحركُ تحتَ سقفِ التدميرِ المُركّزِ، إذ لا نظرياتٍ ساندةً له سوى إشاعةِ (قانون الضرورة الخيالية) الذي تكلّمَ الشاعرُ ريلكه في غيرِ مرّةٍ عن أهميتِهِ في بناءِ الإبداعيِّ سواءً أ شعريًّا كان ذلك العملُ أم فنيًّا، مما يعني أنّ «فيرا شيتيلوفا» لم تستطِعْ أنْ تُخرجَ السينما عن طورِها إلّا بعدَ الانطلاقِ من رغبةِ عاصفتِها الداخليةِ، والأخيرةُ إنْ توفّرَتْ لدى الفنانِ، لاشكَّ أنّها ستُحدثُ تحولًا في تأريخِ الفنِّ برمّتِهِ، ولاسيما إذا كانَ الفنانُ نفسُهُ يعتمدُ التدميرَ كآليةِ إنتاجٍ جماليةٍ وفكريةٍ، كما حدثَ مع «مارسيل دوشامب» في ارتجالِهِ لمعجزتِهِ العظيمةِ: المبولةِ.
يُذكرُ أنّ هذه المخرجةَ قد تعرضَتْ لمضايقاتٍ كثيرةٍ بذريعةِ أنّ ما تصنعُهُ من أفلامٍ يُدرجُ تحتَ محاولاتِ تخريبٍ وإفسادٍ للذوقِ العامِ، مما دفعَها إلى الدخولِ في احتدامٍ مباشرٍ وقطيعةٍ شبهِ دائمةٍ مع السينما التشيكيةِ، وتعدُّ «شيتيلوفا» واحدةً من أسمائِها المهمةِ والجديرةِ بالثناءِ والتقديرِ الفنيِّ، ذلك لما أحدثَتْهُ من تحولٍ في الرؤى البصريةِ والأفكارِ الفيلميةِ غيرِ المؤطرةِ بسياجٍ أكاديميٍّ. الانفلاتاتُ البصريةُ التي ينبغي العملُ على تأكيدِها كاشتغالٍ وأفكارٍ بمقدورِها أنْ تأخذَ الفيلمَ إلى حيثُ تنبثقُ الرؤيةُ الصادمةُ، فما يجعلُ الفن عابرًا هو أنْ يلتزمَ نوعًا من التواطؤِ مع ما قُدِّمَ سلفًا، وأنْ يدخلَ في صفقةِ مصالحةٍ دائمةٍ مع تأريخِ الفنِّ، وهذا ما لم يقبلْهُ فنانٌ أصيلٌ مثلُ «فيرا شيتيلوفا» تعاملَتْ مع السينما على أنّها ألعابٌ ناريةٌ في سماءٍ مقدسةٍ. وهذا وحدَهُ مبرّرٌ كافٍ لأنْ تقصى وتحرمَ أفلامُها من العرضِ، وبلا شكّ أنّ هكذا أعمالًا فنيةً على الرغمِ من رهانِها الفكريِّ على التمددِ مع الزمنِ، إلا أنّها ستحكمُ على مبدعِها بأنْ يكونَ على الدوامِ تحتَ أنظارِ بوليس الآدابِ الثقافيِّ، فأنْ تخرجَ عن السطرِ، هذا يعني أنّك قد وضعْتَ نفسَك على المحكِّ، الحالُ ذاتُهُ الذي حدثَ لكبارِ الكتّابِ والفنانينَ الذين دخلوا عالمَ الفنِّ بشغفٍ عالٍ لا يمكنُ ردُّه إلّا في مضاعفةِ العملِ على الاغترافِ من العوالمِ الداخليةِ للفنانِ كالأحلامِ والخيالاتِ اللامرئيةِ.
السينما رياضةُ العين اللّيلية، إنَّها سيسموغراف الزمن اللامرئي
الصورُ في الفيلمِ في تدافعٍ محتدمٍ، ما يجعلُ المُشاهدَ بحاجةٍ لعينٍ أشدِّ سرعةً من الصورِ نفسِها، وفي أحيانٍ كثيرةٍ تقفُ العينُ متسائلةً عمّا تريدُهُ الكاميرا في اعتمادِها هذا الإيقاعَ من الحركةِ، فهل نحن كاميرا سيمرغيةٌ (نسبة إلى طائر السيمرغ) أم مخاضاتٌ بصريةٌ تكادُ تولدُ لكنّها تعاودُ الاختفاءَ مرّةً أخرى. كأنّما أرخبيلاتٌ تتصلُ رغبةً منها في الانفصالِ. كما في أفلامِ «جان كوكتو»، و «لويس بونويل» مثلُ (كلب أندلسي) و(العصر الذهبي)، لكنْ في النهايةِ تبقى سينما «فيرا شيتيلوفا» أكثرَ تماسًّا مع رؤى وعوالمِ الشاعرِ والسينمائيِّ الدادائيِّ «إيزادودر إيسو» ولاسيما في فيلمِهِ التدميريِّ (السّم والخلود) الذي وضعَ فيه خلاصةَ أفكارِهِ عن سينما تخريبيةٍ غيرِ مرحّبٍ بها في صالاتِ العرضِ.
لا يمكنُ عدُّ هذه السينما إلّا كونَها فعلًا بصريًّا لعبيًّا يمتدُّ بعبثِهِ الشعريِّ خارجَ دائرةِ التوافقاتِ الصوريةِ، فتحضرُ الصورُ حاملةً لدهشةِ الألوانِ وتشكّلِها في مشاهدَ تتحركُ على الشاشةِ كأنّما لوحاتٌ تشكيليةٌ تحملُ مباهجَ ألوانِ «سيزان» ودعابةَ ومرحَ خوان ميرو، بهذا تلجأُ المخرجةُ إلى توسعةِ أفقِ الرؤيةِ وانشطارِها، فتخلعُ بذلك الزيَّ التقنيَّ عن الكاميرا، لتجعلَ منها فرشاةً ضليعةً في التحرّي عن سعادةِ العينِ الأسطوريةِ، ذلك في مواجهتِها لصورةٍ تمتحُ من العبثِ واللعبِ التشكيليِّ جماليتَها الخاصةَ، صورةٌ تغيبُ لتظهرَ وبالعكسِ، في لعبةِ خيالاتٍ مرآويةٍ غيرِ مسبوقةٍ في تاريخِ السينما منذُ التأسيسِ إلى الآنِ.
"السينما ليست مجرد فن، بل هي فكرة عن الفن، والتجسيد الناجح لهذه الفكرة"ـــ جاك رانسيير
الشعريةُ التدميريةُ هي الصفةُ الغالبةُ على اشتغالاتِ «فيرا شيتيلوفا»، ويمكنُنا أنْ نتبيّنَ ذلك بوضوحٍ في فيلميها (زهرة الاقحوان، وثمار الجنة) وقد نالَ هذانِ الفيلمانِ احتفاءَ وتقديرَ نقادِ السينما، فضلًا عن حصدِهما جوائزَ وإشاداتٍ عزّزَتْ من مكانةِ وحضورِ هذه المخرجةِ، وقد أُعيدَ لها الاعتبارُ بعد القمعِ والمضايقاتِ التي مورسَتْ ضدَّها، وعلى الرغمِ من فسحةِ الحريةِ والتقديرِ هذه إلّا أنّها بقيَتْ مخلصةً لأفكارِها وطروحاتِها، إذ لم تهادنْ يومًا السلطاتِ، ولم تصنعْ الأفلامَ رغبةً في الجوائزِ، إنّما كانَ هاجسُها الوحيدُ هو أنْ تكونَ على التصاقٍ دائمٍ بجوهرِ الفنِّ، وأنْ تسبرَ أغوارَهُ كضرورةٍ لا يمكنُ لوجودِها أنْ يتحقّقَ إلّا به.
(زهرة الاقحوان) واحدٌ من الأفلامِ المهمةِ والمؤسّسةِ للعالمِ السينمائيِّ للمخرجةِ «فيرا شيتيلوفا»، استطاعَتْ من خلالِهِ التعريفَ بنظريتِها الخاصةِ في تأملِ السينما وصنعِها، وجاءَ الفيلمُ معبرًا عن مدى اتساعِ رؤيتِها للعالمِ والأشياءِ بتشكلاتٍ بصريةٍ غايةً في الانفلاتِ والمهارةِ الفنيةِ، إنّها سينما مأخوذةٌ بتوثيقٍ باطنيٍّ للحظةِ انهيارِ العالمِ القيميِّ داخلَ الإنسانِ، وتنطلقُ ثيمةُ الفيلمِ من فتاتينِ تحاولانِ معانقةَ الحياةِ دونما قيودٍ مفروضةٍ ولا قوانينَ تحدُّ من حريةِ الفردِ في العيشِ في مجتمعاتٍ ساخنةٍ اجتماعيًّا وسياسيًّا كالتشيك، بهذا يمكنُ عدُّ الفيلمِ مغامرةً دادائيةً مفتوحةً على أداءٍ تمثيليٍّ مرتجلٍ ومنسجمٍ في الآنِ نفسِهِ مع الموسيقى التي لا يمكنُ فصلُها عن ثيمةِ العبثِ الشكليِّ للفيلمِ.
مثّلَ فيلمُ (ثمار الجنة) حقيقةَ الصراعِ الناجمِ عن التورطِ بالاقترابِ من الشجرةِ المحرّمةِ، وقد رصدَتْ من خلالِهِ المخرجةُ ما خفيَ بينَ طياتِ هذه الكوميديا البشريةِ منذُ فجرِ الخليقةِ إلى زمنِنا الراهنِ، علاوةً على تأكيدِها المآلَ العبثيَّ للإنسانِ، ذلك في التنزّهِ بكاميرتِها في دهاليزِ الأسطورةِ بما تحملُهُ من مفارقاتٍ ساخرةٍ، وضحَتْ المخرجةُ ملامحَ ذلك في لجوئِها إلى اعتمادِ الإيقاعِ (الروبوتيِّ الشابلنيِّ) ـــــــــ كموسيقى وأداءٍ في كثيرٍ من المشاهدِ، كإشارةٍ منها إلى استمرارِ اللاجدوى، فيبدو العالمُ من وجهةِ نظرِها حبلًا بلاستيكيًّا يجرُّ العبثُ طرفيه ليعاودَ اصطدامَهُ بنفسِهِ من جديدٍ، هكذا كانَتْ «فيرا شيتيرفا» ترى العالمَ منقادًا إلى هاويةٍ غائرةٍ في الروحِ جرّاءَ ما تشهدُ من انهدامٍ كليٍّ.
في هذه السينما شيءٌ ما يأكلُ نفسَهُ، أو لنقلْ بتوصيفٍ أكثر ملامسة لعالمِ «فيرا شيتيلوفا»: في هذه السينما ثمّة شيءٌ يؤكلُ مجهولُ الاسمِ، وإنّ الإتلافَ الصوريَّ يشيرُ إلى أنّ الفيلمَ ليس سوى (وليمةٍ كانيباليةٍ بصريةٍ)، فالصورةُ تولدُ لتأكلَها صورةٌ أخرى قادمةٌ لا وجهةَ محدودةً لديها سوى أنْ تُؤكلَ هي أيضًا، والحالةُ ذاتُها مع سائرِ الصورِ المشكّلةِ للفيلمِ، المشهدُ يشبهُ إلى حدٍّ بعيدٍ مرآةً تغيبُ في مرآةٍ أخرى، أو مرآةٌ تبتلعُ نفسَها في ما يتحركُ في باطنِها من صورةٍ أو هيئةٍ لا تكتملُ إلّا في غيابِها.
السينما فنُّ تجريفِ السطوحِ بارتداداتِ الرؤيةِ الخالدةِ المنطلقةِ من ضرورةِ التجديلِ البصريِّ الممتدِّ مع رغبةِ الأعصابِ في التقاطِ وبثِّ الذبذباتِ المدفوعةِ بطاقةِ الخيالِ الذي لا يمكنُ أنْ يكونَ إلّا شظويًّا؛ ذلك لأنّ العينَ تستقبلُ الصورَ على أنّها تأتآتٌ بصريةٌ، فتُصبحُ الصورةُ لدى «شيتيلوفا» ثلومًا مسطحةً، مما يجعلُ العينُ تُتأتئُ، كما يدِ هاملت، كما الكلمةِ في طيّاتِ ما كتبَ كافكا، كما بروقِ فان غوغ المدوّرةِ جمالًا تدميريًّا.