: آخر تحديث
نقد أدبي:

قراءة نقدية في كتاب "مذكرات ما وراء القبر"

29
29
12

إيلاف من برلين: لا يبدو كتاب" مذكرات ما وراء القبر"* للكاتب فرانسوا رينيه دو شاتوبريان (1768-1848) ترجمة صبحي دقوري منذ عنوانه الأول، كمجرد كتاب عادي، فهو "ليس سردًا لوقائع، ولا هو توثيق لسيرة، بل هو كتابة من نقطة خارج الزمن". نصّ لا يخاطب الماضي فقط، بل يقف على حافته، ويتأمله من الخارج. شاتوبريان لا يكتب عن حياته كما عاشها، بل كما تلوّنت في وعيه المتأخر، كأنما هو يستعرضها بعدما أفل ضوؤها، فراح يمنحها طبقة أخرى من المعنى عبر الذاكرة واللغة.

ما يجعل هذا النص يتجاوز المذكرات هو ما فيه من مسافة: الكاتب لا يندمج مع ذاته كما كانت، بل ينظر إليها عبر عيون الشيخوخة، والخذلان، والانهيارات الكبرى التي عاشها في عصر الثورة والتغيرات السياسية. من هنا، لا تظهر الطفولة كأصلٍ نقيّ، بل كمهد أول للقلق. القرية، البيت، اللغة، التدين، التعليم الأولي، كل ذلك يُستعاد لا لتمجيده، بل لتفكيكه وتأمله. إن الذاكرة ليست أداة استرجاع، بل تصبح هنا جهاز إسقاط.

ومع لحظة الثورة الفرنسية، يتحول النص من رصد شعوري إلى اهتزاز داخلي. هذه ليست ثورة فقط على المَلَكية، بل على شريحة كاملة من القيم والنظرة إلى الذات والعالم. شاتوبريان الذي وُلد في نظام أرستقراطي، يجد نفسه فجأة بلا مكان، وبلا لغة آمنة. يخرج إلى المنفى لا كعقوبة، بل كقدر، وهناك، في الأرض الجديدة، يكتشف اغترابًا أشد، لأنه لا يجد في المحيط الجديد ما يعوّض الداخل الذي تفكك. إنه يعيش التشظي النفسي لا السياسي فقط، ومن هنا تنبثق الكتابة كمحاولة لتثبيت شيء ما وسط هذا الفقد المتراكم.


قبر شاتوبريان في جزيرة غراند بي في بلدية سان-مالو بمنطقة بروتان الفرنسية

تدخل اللغة هنا بحساسية فائقة: تصبح الكتابة مأوى لا موقفًا. كل جملة تشبه لبنة" أو" طوبة" تُبنى بها الذات من جديد. شاتوبريان لا يتحدّث إلى القارئ، بل يُحدّق في مرآته، ويفكّك صورته. هذا ما يجعل الكتاب عملًا تأمليًا بالدرجة الأولى، لا سيرة إخبارية. لا يهمّ ما حدث، بل كيف حدث، وما الذي تركه في النفس من أثر.

لاحقًا، حين يدخل الحياة العامة، ويصبح سفيرًا وفاعلًا سياسيًا، لا يبدّل ذلك من نبرة الكتاب. بل نكاد نحسّ أن دخوله أروقة الدولة زاد من اغترابه، لا العكس. الدبلوماسية لا تمنحه رسوخًا، بل تفضح مسافة جديدة بينه وبين العالم. المناصب تبدو كأثاث رسمي لا يحمل له دفئًا، والسياسة مسرح لا يتقن تمثيله. حتى باريس، الحاضرة المركزية، لا تُغريه بل تُثقله. ينظر إليها بعيون رجل لم يعد ينتظر منها شيئًا. هذه المرحلة من حياته تُعرض بهدوء داخلي، بشيء من النضج، لكنه نضج من نوع بارد، ساكن، شبه خافت.

ومع تقدم العمر، تزداد هذه النبرة صفاءً. إذ إن شاتوبريان لا يعود صاحب قضية، بل شاهدًا على نهاياته. يكتب لا ليُقنع، بل ليؤرّخ بصوت منخفض. الكتابة هنا لا تُقاوم الفناء، بل تصادقه. تتحول الفقرات إلى مقاطع تشبه الدعاء، أو تأملات شيخ عرف أنه اقترب من الحافة، وأصبح لا يحتاج إلى تفسير كل شيء، بل إلى الإصغاء لما تبقّى.


جزء من غلاف الكتاب

اللغة التي نقل بها صبحي دقوري هذا السفر الذي ينيف عدد صفحاته عن الألف ويهديه إلى المحرر - وعلى ضوء الأجزاء الأربعة التي قرأتها بالعربية - تستحق أن تُقرأ بوصفها نصًا موازيًا، كما يفهم قياساً إلى ما قيل وكتب في هذا السفر العظيم. إنها لكم تكن مجرد ترجمة، بل محاولة استعادة دقيقة لنبرة مؤلف لا يكتب، بل يتهجّى روحه. فالمترجم لم يتكلف، ولم يبتذل، بل قدم لغة عربية متماسكة، رفيعة، تتردد فيها أصداء الأصل الفرنسي، كما أتيح لنا التعرف عليها من خلال ترجمات الكثير من عيون الأدب الفرنسي، فهي بعيدة عن كل تقليد. حيث هناك اقتصاد في الجمل، وشعرية غير مزخرفة، وصدق في التعبير عن التعقيد دون الوقوع في الغموض. هذه الترجمة تمثّل نموذجًا لما يمكن أن تكون عليه اللغة العربية حين تُستخدم لنقل أدب التأمل العميق والوجدان الثقيل.

كل ما في هذا النص ينبض بالبطء. لا شيء فيه يصلح للقراءة السريعة. إنه كتاب يتطلب أن يجلس القارئ طويلًا، أن يتأنّى، أن يتساءل، وربما أن يصمت أكثر مما يعلّق. ليس لأن النص غامض، بل لأنه واسع، يتسع لأكثر من تأويل، وأكثر من ظلّ.

هنا لا نتعلم من الماضي، بل نقرأ صدى مَن عبره ثم وقف في نهايته، متأملًا، كمن يكتب لا ليسجّل، بل ليُسلّم، ليُغلق الدفتر، ويترك أثرًا بسيطًا، متماسكًا، طويل المدى، لكنه عميق كأنّه نُقش تحت الجلد.

وهكذا، يُنهي شاتوبريان نصّه لا على هيئة نهاية، بل على هيئة انسحاب صامت. وكأن الكتاب كله لم يكن إلا صوتًا خافتًا لرجل قال ما عنده، ثم مضى.


* "مذكرات ما وراء القبر"، دي شاتوبريان، فرانسوا، ترجمة صبحي دقوري - دار تموز ديموزي - دمشق 2025


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات