: آخر تحديث

نغوجي واثيونغو حين كتب بلغته كي لا يُمحى شعبه... دروس لكردستان الممنوعة

9
7
6

وُلد نغوجي واثيونغو في كينيا في الرابع والعشرين من نيسان (أبريل) 1938، وسط احتدام الاستعمار البريطاني. وفي شهر نيسان (أبريل) من عام 2025، صمت قلبه وهو في المنفى، بعدما كتب ما يشبه دستورًا فكريًا للأمم المنسية. كان ابن شعبٍ أسود البشرة، مستعمَر الجغرافيا، وممنوع من لغته في التعليم والإبداع، فنهض بالكتابة بلغته الأم "الكيكويو" متحديًا سطوة اللغة الإنجليزية التي تربّى عليها. لم يرحل كاتبًا فحسب، بل ترك وراءه نظريةً كاملة لتحرير الشعوب من استعمار العقول، لا الجيوش.

نحن الكرد، حين نقرأ نغوجي، لا نقرؤه بعيون نقدية مجردة، بل نقرؤه بعيون من فقدوا حرية الأبجدية وأصداء الصوت الذاتي، وطوردوا لأنهم غنوا بلغتهم في الحقل أو كتبوا بها على جدار. نغوجي ليس مرآة أفريقية فقط، بل هو مرآة كردية في العمق، فيما لو نستذكر ملامحنا الأسيرة والمصادرة التي تضيق بالأطواق والأسوار. كان صادقًا حين قال: "اللغة هي بيت الكينونة، إن كتبنا بلغة الآخر نكون ضيوفًا في بيوت غيرنا".

بين السرد والمقاومة
كتبه كمفاتيح للذاكرة المقاومة

من روايته الأولى "لا تبكِ يا ولدي" إلى "بتلات الدم"، كان يُدخل الأدب في مواجهة سياسية مع الاستعمار الخارجي، ثم الداخلي لاحقًا. لكنه في "تحرير الذهن من الاستعمار" بلغ ذروة التحدي؛ حيث أعلن انفصاله الفكري عن اللغة الإنجليزية، وبدأ الكتابة بلغته الكيكويو، رغم أنه كان قادرًا على أن يكون نجمًا عالميًا في الإنجليزية. هذه الثورة اللغوية هي قلب مشروعه، وجذر ما يجب أن نقرأه نحن الكرد في لحظتنا التاريخية الحرجة.

نغوجي لم يُنظّر في الفراغ. في كتاب" نقل المركز"، كان يدعو إلى كسر مركزية أوروبا، وفتح باب العالم أمام اللغات والثقافات الأخرى، بما فيها المهددة بالانقراض. وهو ما يعنينا تمامًا، نحن الكرد، الذين أُقصينا لا من جغرافيا الدول فحسب، بل من مركزية الثقافة كذلك. لا يُمكن لكاتب كردي أن يتجاهل مرآة نغوجي، خصوصًا حين نعيش تجربة الكتابة بالعربية أو الفارسية أو التركية، تحت وطأة الضرورة، لا الاختيار.

نظريته: اللغة كجبهة تحرير ضد المحو
جوهر نظريته بسيط وعميق: لا تحرير حقيقي دون تحرير لغوي. فاللغة ليست وعاء الفكر فحسب، بل هي جهاز الرؤية، وبوصلة الوجود. من يكتب بلغة مستعمِره، يرى نفسه من خلال أعين عدوه. كان يرى أن اللغات الأفريقية – ومن ضمنها الكيكويو – ليست أدنى من الإنجليزية أو الفرنسية، بل أنها مؤهلة لإنتاج الفلسفة والأدب والمعرفة.

وهنا تكمن المفارقة الكردية: كيف يُمنع شعب تعداده أكثر من خمسين مليونًا من تدريس لغته؟ كيف يُعامل الكردي الذي يكتب بلغته الأم كمجرم؟ كيف ننتظر الإبداع من كاتب ممنوع من لغته منذ الطفولة؟ نغوجي أجاب عن هذا حين اختار لغته لكتابة المسرح والرواية، رغم أن النشر بها محدود. أراد أن يربح نفسه وشعبه، لا السوق.


الكاتب نغوجي واثيونغو يصافح أحد المعجبين الصغار خلال حفل لتوقيع كتابه إصدار حديث من روايته "لا تبكِ يا ولدي" في نيروبي، عاصمة كينيا في 13 حزيران (يونيو) 2015

من كينيا إلى كردستان: ماذا تعني تجربته لنا؟
حين كتب نغوجي روايته"الشيطان على الصليب" على ورق المرحاض في السجن، كتبها بلغته الأم. لم يكن لديه طابعة، ولا ناشر، ولا جمهور. لكنه كان يكتب لنفسه، لشعبه، لتاريخه. أما نحن، فنكتب ونحن نرتجف من رقيب لغوي، نخشى أن تُصادَر قصيدتنا لأنها ليست بلغة هذه الدولة المفروضة  أوتلك.

نغوجي كان يعرف أن اللغة ليست أداة ترف، بل رخصة وجود. والكاتب الذي يبدع بلغة مستعارة، وإن كان بارعًا، يبقى بلا جذور. لذلك، كلما كتبنا بالعربية أو الفارسية أو التركية، يجب أن نعرف أننا نُترجم وجعنا، لكننا لا نصرخ بأصواتنا.

عن الأمازيغ أيضًا... وهم إخوة الوجع
ولأنَّ الجراح لا تنزف في كردستان وحدها، فإن الأمازيغ، كمثال، فحسب، لا سيما في شمال إفريقيا، خاضوا ويخوضون المعركة ذاتها. منذ تفكك المشروع الإسلامي كمشروع عادل، وتحوله إلى أداة هيمنة سياسية، تم تهميش الثقافات الأصلية لصالح لغة الفقهاء، أو لغة الغزاة. الأمازيغ كُتب عليهم أن يعيشوا على الهامش في بلادهم، واحتاجوا إلى عقود من النضال لفرض لغتهم في المدارس والإعلام.

كما حالة الكرد، تماماً، كتب الكثير من مثقفيهم بالعربية، لكنهم عادوا ليكتشفوا أنَّ لغتهم ليست مجرد وسيلة، بل جوهر. ولولا المقاومة الثقافية الأمازيغية في المغرب والجزائر، لكانت تمازيغت اليوم مجرد ذكرى شفوية، كما يراد للكردية في أجزاء كثيرة أن تكون.

الإسلام السياسي ومصادرة التنوع: مأساة الشعوب غير المعترف بها
نغوجي عاش في مجتمع ثنائي الدين: مسلم ومسيحي مختلط، لكنه لم يطرح الدين كأداة إقصاء. كان يعرف أنَّ الإيمان لا يتناقض مع الهوية، وأنَّ المشكلة تبدأ حين يتحول الدين إلى مشروع دولة. وهذا ما حدث مع الكرد بعد تفكك الخلافة العثمانية، وقيام الجمهوريات الحديثة. إذ أُقصي الكردي لا لأنه كافر، بل لأنه ليس عربيًا أو فارسيًا أو تركيًا. فصودرت لغته بحجة التوحيد، وهمّشته النخبة الإسلامية بحجة وحدة الأمة، لكنها وحدة على حساب الضعفاء.

تمامًا كما حدث مع الأمازيغ، وكثير من الشعوب الإسلامية غير المعترف بها. حين تفرّقت الدولة الإسلامية إلى دول قومية، لم يجد الكرد أنفسهم فيها. كل دولة جديدة جعلتهم "أقلية مريبة". وصار الكردي مطالبًا بإثبات ولائه للجغرافيا، لا لروحه.

نغوجي رحل... ولكن صوته سيبقى في حنجرة كل كردي ممنوع من لغته
نغوجي واثيونغو لم يكن كرديًا، لكنه قال فيما يشملهم، كمظلومين، من دون تسميتهم، ما لم يقله كثير من الكرد عن أنفسهم. عاش وهمّه ألا يُمحى شعبه، فكتب بلغته، ودفع الثمن. ونحن اليوم، أمام لحظة تأمل: هل نستمر في الكتابة بلغات الآخرين؟ أم نعيد الاعتبار للكردية، ولو على الورق، ولو في الظل؟

إنَّ رحيل نغوجي ليس نهاية قصة كينية، بل بداية سؤال كردي: متى نحرر لغتنا كما حرر نغوجي لسانه؟ متى نكتب بلغتنا لا بلسان من نُفينا منه؟


المصادر:
محطات من سيرته عبر الشبكة العنكبوتية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات