إيلاف من الرباط: توفي مساء الأربعاء الكاتب التونسي حسونة المصباحي، عن عمر يناهز 75 سنة، وذلك بعد مسيرة أدبية طويلة وحافلة، ترك خلالها بصمة واضحة في الرواية والقصة والترجمة وأدب الرحلة.
وتشيع جنازة الراحل اليوم الخميس، إثر صلاة العصر ليوارى الثرى بقرية الذهبيات (حفوز)الواقعة في ولاية القيروان، كما أوصى.
وسارع عدد من المثقفين والكتاب العرب إلى التعبير عن حزنهم لرحيل المصباحي، مستحضرين مساره الأدبي وإسهاماته في أكثر من حقل أدبي، مستحضرين أهم المحطات في حياته وسيرته.
حسونة المصباحي مع مؤسس منتدى أصيلة الراحل محمد بن عيسى والشاعر البحريني قاسم حداد والفنان التشكيلي عبد الله الحريري
بصمة لا تنسى
كتبت الصحفية التونسية حنان زبيس: "وداعا صديقي العزيز حسونة المصباحي. إلى جنة الخلد. فقدناك وفقدت برحيلك الساحة الثقافية كاتبا عالميا. لا يعزينا قي رحيلك شيء".
وكتب الكاتب والمترجم والناشر التونسي وليد سليمان عن رحيل المصباحي: "تونس تفقد كاتبا كبيرا عاش للأدب ومن الأدب، وهو من بين قلة تفرغوا تماما للكتابة في تونس وتركوا بصمة لا تمحى. وكنت قد تشرفت سنة 2009 بنشر روايته "رماد الحياة" ضمن منشورات وليدوف التي أشرف عليها. أحزنني كثيرا خبر رحيل حسونة المصباحي فهو كاتب حقيقي تستحق تجربته كل الاحترام".
وكتب حسن بن عثمان الكاتب والصحفي التونسي: "رحل الكاتب التونسي القيرواني حسونة المصباحي عن عمر ناهز السبعة عقود ونيّف. كانت الكتابة الأدبية رهان حياته إلى آخر رمق. ملأ الدنيا وشغل الناس طيلة حياته الموزعة بين قرية العلا ومدينة القيروان والحمامات والعاصمة التونسية وألمانيا وفرنسا وبغداد والمغرب الأقصى. وكان فارسا من الطلائع في الساحات الثقافية العربية وصدمة الحداثة، متنقلا بين مجلات العراق ومجلات السعودية في المهجر وفي بغداد والرياض، متمسّكا بلغته ومفرداته ويطوّع الخطاب حسب السياقات السردية، وكان يدعو إلى الثورة في الخيال، قبل أن تحدث الثورة في الواقع، كان يسارا منشقا عن اليسار وعروبيا لا يؤمن بالوحدة ووطنيا يُسمّي الزعيم بورقيبة بالدكتاتور العجوز، وكان عربيدا متمردا جوّاب آفاق، صعلوك من صعاليك الأدب وهو الصديق الأثير للكاتب المغربي محمد شكري، وكان من المبشّرين به وبكتابه "الخبز الحافي"، وكان للمصباحي إقامة موسمية في أصيلة المغربية وصداقة أثيرة مع وزير الثقافة والخارجية المغربي الشهير محمد بن عيسى. إلى آخر رمق في الرهان، رهان الكتابة، قِران حياة حسونة المصباحي التي خلّف منها نسلا من الكُتب ولم يخلّف أبناء من النسل البشري، وقبل رحيله بأيام في شهر مايو لهذه السنة 2025 نشر روايته التي عنوانها "يوم موت سالمة"، قرأنا عنها ولم نقرأها بعد، وعلمنا أنها تدور حول يوم واحد في حياة البطلة في ريف القيروان. سلامي لعزيزي حسونة المصباحي، رفيق المسيرة منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، سلامي له وهو يرحل، وهم السابقون ونحن اللاحقون".
حسونة المصباحي ورفيق عمره صموئيل شمعون أمام مكتبة الأمير بندر في أصيلة
قامة أدبية فريدة
وصفت "دار نقوش عربية" التونسية الأديب والصحفي والمترجم حسونة المصباحي، بـ"أحد الأصوات الأدبيّة المميّزة في المشهد الثّقافي التّونسي والعربي"، الذي كان "قامة أدبيّة فريدة، نسج عبر رواياته وقصصه القصيرة عوالم إنسانيّة عميقة، وصاغ بأسلوبه الخاصّ رؤى حادّة حول الوجود، المجتمع، والهويّة. كما ساهم، عبر ترجماته ومقالاته الصحفيّة، في بناء جسور بين الثّقافات، وفي الدّفاع عن الكلمة الحرّة وعن الأدب كمساحة للتأمّل والتمرّد والتّجديد".
وشددت "نقوش" على أنها تشرّفت بنشر عدد من أعماله، وأنها تشعر اليوم بـ"فقدان كبير، لا فقط لمبدع تعاونّا معه، بل لصوت حرّ ومضيء كان له أثره في مسيرة الأدب التّونسي المعاصر".
حسونة المصباحي مع الكاتب المغربي أحمد المديني
من جهتها، نعت الإدارة العامة للكتاب التونسية المصباحي، مستعرضة مساره وتجاربه. فيما نشر بيت الرواية في تونس خبر رحيل المصباحي، الذي فقدته الساحة الأدبية والثقافية التونسية والعربية، مشيرة إلى أنه أحد أبرز أعلامها، وأنه راكم مسيرة أدبية طويلة ترك خلالها بصمة واضحة في الرواية العربية وأدب الرحلات والقصة القصيرة.
سيرة حافلة
استعرض البيت سيرة الراحل، مشيرا إلى أنه ولد سنة 1950 في منطقة العلا بولاية القيروان حيث تلقى تعليمه الابتدائي، ثم واصل دراسته الثانوية والعليا في تونس العاصمة وتخرج من مدرسة ترشيح الأساتذة المساعدين، قبل أن يبدأ مشواره المهني أستاذا للغة الفرنسية، لكنه فُصل لأسباب سياسية منتصف سبعينات القرن الماضي، لينتقل بعدها إلى العمل الصحفي والأدبي في الصحف والمجلات العربية المهاجرة، مثل" الدستور" و"الوطن العربي" و"كل العرب" و"الشرق الأوسط". ثم استقر بمدينة ميونيخ الألمانية بين عامي 1985 و2004، حيث شغل منصب سكرتير تحرير مجلة "فكر وفن" الموجهة للعالم العربي، وكتب في كبريات الصحف والمجلات الألمانية، مقدّما مقالات ودراسات تناولت الثقافة العربية ورموزها البارزين من أمثال طه حسين ونجيب محفوظ والطيب صالح وأدونيس.
مع الطاهر بلخوجة وزير داخلية تونس الأسبق في أحد مقاهي المهدية قبل سنوات
وأضاف البيت أن المصباحي تميز بأسلوبه الأدبي المتفرد، كماقدم طيلة مسيرته أعمالا سردية متنوعة شملت القصة والرواية وأدب الرحلة، كما خاض تجربة الترجمة. ومن أشهر رواياته "هلوسات ترشيش" (1995)، و"الآخرون" (1998)، و"وداعا روزالي" (2001)، و"نوارة الدفلى" (2004)، و"حكاية تونسية"(2008) و"يتيم الدهر" (2012). كما كتب مجموعات قصصية،مثل "حكاية جنون ابنة عمي هنية" (1985)، و"السلحفاة" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كين للأدب الإفريقي.
تأكيدا لقيمته، نال عدة جوائز أدبية، من بينها جائزة وزارة الشؤون الثقافية للقصة القصيرة سنة 1986، وجائزة "توكان" لأفضل كتاب في مدينة ميونيخ عن روايته "هلوسات ترشيش". كما حاز جائزة محمد زفزاف للرواية العربية سنة 2016 تقديرا لمجمل أعماله الأدبية.
في جو مرح في مراكش رفقة عثمان العمير وحسن عمر العلوي
المصباحي والمغرب
كتب الأديب المغربي أحمد المديني: "وداعًا وداعًا وداعًا وداعًاالصديق رفيق درب الحياة والكتابة وأحلامنا وهذا العالم الصفيق. وداعًا حسونة المصباحي. لا عبارة تنعاك ولا قول بليغ كافٍ ليشيعك إلى نهاية مثواك. اعذرنا أحببناك على قدر الهوى، أو قسونا عليك. ما وجدت في زمن الحقارة والصغارة والصغار هذا من يرعاك. تبّا له من أدبٍ لهم من حكام وسادة أغبياء، وأدباء متنطعين يتمسحون بأهداب الأولياء، وغصبوا، سرقن في واضحة النهار بفجاجة ما كان ينبغي أن يهداك، بلا مروءة بلا كرامة بلا أفلاك؛ ما عاد عندي دمع لأبكيك .. وأني لفراقك أجهش بالبكاء".
وكتب الروائي المغربي مصطفى لغتيري عن "فارس الكلمة الذي ترجل عن فرس الإبداع وعن قطار الحياة": "تعازينا الحارة في وفاة الكاتب التونسي حسونة المصباحي، الذي أحب المغرب".
واحتفظ المصباحي بعلاقة عشق للمغرب وحب واحترام لعدد كبير من مثقفيه. حب ضمن بعضه في كتابه "الرحلة المغربية"، كما عبر عنه في شهادة حب موجهة للمغرب والمغاربة، في سياق تفاعله مع زلزال الحوز، قبل نحو سنتين. وكان مما كتب وقتها: "المغرب الذي أحب... المغرب الذي كان ولا يزال لي جناحا ثانيا يؤكد هويتي المغاربية، ويمنحها أبعادا تفتح أمامي عوالم بهيجة لا يعرف سرها غيري أنا الذي جبت تلك البلاد طولا وعرضا، وأحببت أهلها في المدن وفي الأرياف، وفي الصحاري وعلى ضفاف المتوسط أو الأطلسي، وصادقت شعراءها وأدباءها ومفكريها وفنانيها، وعشقت لهجاتها المتعددة والمختلفة وأطربتني أغانيها و"عيطاتها" وسحرتني أسواقها المعطرة بروائح أراضيها الطيبة المعطاء، وتعلمت أن أقول "واخا حبيبتي " في حانات طنجة، وأن أروض جنوني في "ساحة جامع الفنا"، وأن أفك ألغاز تاريخ الملوك في مراكش وفاس والرباط، وأن أمشي على بساط من الريح في آخر الليل في نهاية سهرات أصيلة، وأن أتغزل بجمال الصحراء في العْيُون وفي الدَّاخْلة، وأن أغني "فين غادي بيا خويا فين غادي بيا" في قطار سريع يحملني إلى الدار البيضاء. أيها المغرب البديع... خانتك الطبيعة أكثر من مرة... إلاّ أن عشاقك وأحباءك لم يخونوك أبدًا".
عاشق أصيلة
كتب الكاتب الصحفي بوشعيب الضبار عن المصباحي، "عاشق أصيلة": ""حينما يرحل الأصدقاء تفرغ المدينة"، هكذا كتب الكاتب التونسي حسونة المصباحي، ذات مرة، في تدوينة على الحائط الفايسبوكي لصديقنا المشترك حاتم البطيوي، إبن أصيلة البار. وأضاف حسونة أنه يمضي وحيدا في شوارعها المقفرة، تمضغه "أوراق الخريف"، على حد تعبيره. كان موسم أصيلة قد انتهى، واستطاب لحسونة المقام، لعدة أيام إضافية، مستمتعا في هذه المدينة الراقدة على شاطئ المحيط الأطلسي التي ارتبط بها كثيرا، لا يكاد يمر موسم من مواسمها دون أن يحضره مواكبا ومشاركا في أمسياتها، ينثر البهجة في مجالسها بروحه المرحة وحيويته التي تتدفق بعشق الحياة في كل تجلياتها. رغم اغترابه الطويل في ألمانيا، لمدة عشرين سنة، ظل المصباحي محافظا على هويته وانتمائه لتونس، التي عاد إلى العيش فيها، في السنوات الأخيرة، كاتبا وعاشقا لترابها، وفيها أسلم الروح لباريها، بعد رحلة مريرة مع المرض. رواياته وقصصه مستوحاة من أجواء تونس وسمائها وناسها ودروبها، في تحولاتها مع إيقاعات الزمن اللاهث. إبداعاته مرآة حقيقية لما يتفاعل في قلب تونس، ولذلك قال عنه الكاتب المصري الراحل يوسف ادريس: "يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التونسي، وكيف يفكر، وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة كما لو أنك عشت في تونس عشرات السنين". لم يكن كاتبا فقط لرصيد هائل من الكتب، بل كان مترجما أيضا للعديد من المؤلفات الأجنبية، ومن أشهرها كتاب "أصوات مراكش" للكاتب الألماني إلياس كانيتي، ويدخل ضمن أدب الرحلة. كان صديقا كبيرا للمثقفين والإعلاميين والمبدعين، وبلغ من حبه الكبير للمغرب، رحمه الله، أن سجل مذكراته وتنقلاته في ربوعه، في كتاب صدر عن "بيت الحكمة" في تطوان بعنوان "الرحلة المغربية"، وفيها يستحضر مشاهداته وذكرياته بأسلوب يغلب عليه التشويق في السرد".