يُعَدُّ فنُّ السيرة الذاتية من الفنون الأدبية ذات الأهمية الكبرى، بالنسبة للأعلام، سواء في مجال الثقافة أو الفنون الإبداعية أو السياسة أو غيرها من المجالات. إذ يُسلِّط كاتب السيرة الضوء على قضايا مهمّة تتعلّق بحياته الشخصية، طالما أن المتلقي بحاجة إليها، فيكسر بذلك أيَّ جدارٍ بينه وبين صاحب السيرة. ويُعدّ هذا، في نظر النقد التقليدي، من الوسائل المهمّة لفهم حياة صاحب السيرة، وفهم عوالمه الإبداعية، والمؤثرات الكبرى التي أثّرت في شخصيته، سواء أكان شاعراً، روائياً، قاصاً، رسّاماً، مسرحياً، أو غير ذلك، وينطبق الأمر كذلك على الناقد، والسياسي، وسائر المشاهير.
في الواقع، يمتلك فنُّ السيرة الذاتية خصوصية جمالية، وفنية، وفكرية، إذ يتضمّن شهادات شخصية من المبدع عن بيئته، والمراحل الحياتية المتنوعة التي مرّ بها، ومدى تأثير كلّ ذلك على الجوانب السيكولوجية في نفسه. بل إن الأهم من ذلك كله، أن السيرة الذاتية تساعد المتلقي والناقد معاً على اكتشاف جوانب مجهولة من حياة المبدع، لا بد من الاطلاع عليها لفهم إبداعه، وتكوين صورة أوضح عن نشأته والمؤثرات الكبرى التي رسمت خط حياته.
من هنا، أدرك كثيرٌ من المبدعين، في مختلف لغات العالم، أهمية السيرة الذاتية، فكتبوا جوانب من حياتهم، وصدرت هذه الأعمال ضمن الكتب الأكثر رواجاً وانتشاراً ومبيعاً، خاصة إذا كان لصاحب السيرة ثقلٌ إبداعي بارز. ومن بين النماذج البارزة في هذا المجال: طه حسين في كتابه الأيام، وسليم بركات في كتابيه السيرويين الجندب الحديدي وسيرة الصبا. ففي الأيام، المكتوب بلغة بيانية عالية، يكشف طه حسين عن أسرارٍ شخصية لم يكن لأحد أن يعرفها لولاه، تتناول بيئته وطفولته ودراسته. أما سليم بركات، فقد وثّق في سيرتيه بيئة منطقة الجزيرة السورية، وتحديداً مدينته "قامشلي"، بكل تفاصيلها اليومية من الأحلام والانكسارات، والأفراح والأتراح، مقدماً شهادة فنية نادرة تُعدّ تحفة إبداعية بامتياز.
وفي سياق مختلف، كتب عبدالرحمن بدوي، الفيلسوف والمترجم البارز، سيرته بأسلوبٍ غير متوقّع، كشف فيه عن مواقفه من الآخرين، وأثارت سيرته جدلاً كبيراً بين قرّائه.
وإن كان بعض الأعلام قد كتب سيرته بشكل مباشر، فإن عدداً من الأدباء الكبار تناولوا سيرهم الذاتية ضمن أعمالهم الإبداعية، دون الإشارة الصريحة إلى ذلك. فتكون هنا السيرة ملتبسة، لا يُمكن نسبتها بيُسر إلى صاحبها، كما يحدث في الرواية والقصة، وأحياناً في المسرح، وحتى في التشكيل أو الموسيقى. ومهما يكن، فإن أي إنتاج إبداعي لا يمكن فصله عن سيرة مبدعه، لأنها تشكّل العماد الفِقري لذلك الإبداع، إذ إن ذات المبدع تتسرّب لا محالة في كل تفصيلة من تفاصيل عمله، سواء أطلق حُكماً إيجابياً أو سلبياً على ما يتناوله، لأن الإبداع لا ينفصل عن صاحبه، حتى وإن لم يكن انعكاساً فوتوغرافياً لحياته.
لكن، لا يصحّ أيضاً أن نحاكم النص الإبداعي وفق مقاييسنا الأخلاقية وحدها، فنُحمِّل المبدع وزر شخصياته، كما لو كانت الجريمة التي يرتكبها بطل رواية ما هي بالضرورة جريمة مؤلفها. فهذا خطأ نقدي جسيم، وإسفاف غير مقبول.
لقد رأى بعض النقاد التقليديين أن معرفة عوالم المبدع ضرورية لفهم إبداعه، إذ تمنح المتلقي مفاتيح الدخول إلى طقوسه ومناخه الشخصي، وتاريخه الإبداعي، بما يحمله من انكسارات وأحلام وأفراح. لكن في المقابل، يرى آخرون أن النص الإبداعي كافٍ وحده، وأنه قادر على التعبير عن نفسه وتقديم مفاتيحه الداخلية دون الحاجة إلى سيرة صاحبه، بل إن معرفة تفاصيل حياة المبدع قد تضلل المتلقي، وتصرفه عن خصوصية العمل ذاته.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن بعض النقاد تطرّقوا إلى قضية "تزويق" بعض المبدعين لسيرهم الذاتية، وتدخّلهم في إعادة صياغتها، وإخفاء بعض الجوانب، والتركيز على أخرى. بل إن بعضهم قد يُضخِّم من دوره في أحداث معينة، أو يزيف بعضها، وهي ممارسات لا تقلّل من أهمية هذا الفن، الذي يبقى من أقرب الأجناس الأدبية إلى المتلقي، كما هو الأقرب إلى كاتبه ذاته.