تشتغل رواية "نَفَس الله" للكاتب المغربي عبد السلام بوطيب على نحو غير مألوف في الرواية المغربية المعاصرة. فبعيدًا عن الوظائف التقليدية للسرد، تتحول الرواية إلى أداة للبحث الوجودي، حيث تُستدعى العدالة لا كقيمة حقوقية مجردة بل كمأساة داخلية، تقتات من هشاشة الإنسان وتنبش في تجاويف الذاكرة الشخصية والجمعية.
إنّ هذا العمل لا يروي فقط ما وقع، بل يفكّك شروط الوقوع، ويعيد مساءلة النسيان كآلية دفاعية وكجريمة معرفية في آنٍ واحد. وبهذا، يتحوّل "نَفَس الله" إلى نصّ أنطولوجي-سردي، حيث لا تكون الحقيقة مُعطىً، بل سؤالًا متجددًا لا يُجاب عليه، بل يُعاش.
تسائل الرواية تخوم الذات والهوية والعدالة، من خلال نص سردي تأملي يحفر في الجذور الوجودية للذاكرة الفردية والجمعية. حيث يتحول السرد إلى ممارسة تكشف هشاشة الإنسان أمام النسيان، سؤال المعنى وأفق المصالحة الداخلية. وتربط البنية السردية للرواية بالسياق الحقوقي والسياسي والاجتماعي الذي يشتغل عليه الكاتب.
بين العدالة الانتقالية والعدالة الوجودية: السرد كوسيط تصالحي
تحمل الرواية انشغالًا واضحًا بإرث "العدالة الانتقالية"، لكن الجديد هنا أنها تخرجها من نطاق الإصلاح المؤسساتي إلى تخوم الذات الفردية. فـ"أحمد" – البطل – ليس مجرد شاهد على الذاكرة، بل جسدٌ فقد ذاكرته وبات غير قادر على الحكم على نفسه أو على الآخرين.
هذه الوضعية تُحاكي ما يسميه بول ريكور بـ"أخلاقيات النسيان"،حيث تتحول العدالة من جهاز خارجي إلى جهاز تأملي، لا يتعلق الأمر باستعادة حق بل باستعادة إمكانية أن يكون للحق معنى في ذات مكسورة.
السرد هنا لا يعوّض المحاكمة،بل يُمارسها على الذات، ويكشف أن الغفران لا يُنتج النسيان بل يحرر الذاكرة من كراهيتها.
وبذلك، يتحول السرد إلى بديل وجودي للعدالة العقابية، وإلى شكل من "العدالة الشعرية" التي دعا إليها جورج شتاينر، حيث يُستعاد المعنى لا بالحقائق بل بالشذرات، بالتكرار، بالهشاشة.
تُشكّل رواية "نَفَسُ الله"الصادرة عن منشورات النورس عام 2025 في نحو 195 صفحة، منعطفًا لافتًا في تجربة الكاتب المغربي والفاعل الحقوقي بوطيب، تشتغل على العدالة الانتقالية كقلق وجودي داخلي، عبر تفكيك الذاكرة بوصفها ورمًا معرفيًا يسكن الذات ويتحكم في مساراتها. من هنا، ينهض السرد بوظيفة مزدوجة: فهو من جهة حفر في المتخيل الشخصي والجمعي، ومن جهة أخرى ممارسة معرفية روحية تطرح أسئلة الحقيقة، الغفران، الهوية، والمصير، ليس بمنطق التقرير، بل عبر لغة تتماس مع البوح الصوفي. حيث تتحول الرواية في "نَفَسُ الله" إلى حقل دوال لطرح العدالة بوصفها تجربة نفسية ووجودية وُعاد تشكيل الذاكرة والهوية عبر لغة ميتاسردية تأملية تتجاوز الحبكة التقليدية نحو الكشف الجمالي.
تحضر العدالة في الرواية لا بوصفها موضوعًا سياسيًا - كما اعتدنا في أدبيات العدالة الانتقالية – بل كجرح في الذات. أحمد، بطل الرواية، لا يُقدَّم كفاعل حقوقي فقط بل ككائن فاقد لذاكرته، وبالتالي فاقد لقدرته على الحكم، والتذكر، والتصنيف.. هذا الانكسار في الذات يشكل مفتاح قراءة الرواية: من العدالة الخارجية إلى العدالة الروحية.
من هذا المنظور، تُطرح أسئلة عميقة في قلب العدالة الانتقالية التي عرفها المغرب وتجارب دولية عديدة مثل: هل يمكن للعدالة أن تتحقق دون ذاكرة؟ هل المصالحة ممكنة إذا كان أحد الطرفين بلا تاريخ؟ وهل الغفران أو الصفح أو المصالحة فعل فردي أم عقد وجودي يتطلب اعترافًا روحيًا؟
لا تجيب الرواية على هذه الاسئلة، بل تعمّق الجرح وتحوّله إلى سؤال مفتوح يقف على مسافة واحدة من الضحية والجلاد.نجد في مقاربة الكاتب لمفهوم العدالة في روايته "نَفَس الله"، صدى قويًا لنظرية بول ريكور الذي يميز بين "العدالة القضائية" و"العدالة السردية"، معتبرًا أن الذاكرة تُستعاد عبر إعادة سرد الذات. حيث يصبح السرد شكلاً من العدالة الداخلية.
سردًا: من "أنا أذكر" إلى "أنا أُفتَقد"
تفقد شخصية، أحمد، مركزية الـ"أنا". وبدل القول: "أنا أتذكر"، تصبح الذات فعلًا منسحبًا: "أنا أفقد نفسي". وهذا ما يجعل الهوية غير معطاة بل متخيَّلة، تُبنى على جُثَث القصص المحذوفة، الخائفة والناقصة.
في هذا السياق، تُصبح لويزة/أنخيلا نموذجًا للذات التي ترفض الذاكرة كحمولة سامة، وتختار التماهي مع اسم جديد، لغة جديدة، وطن بديل، وحتى جسد لغوي جديد، ما يُعيدنا إلى تصور "جاك دريدا" عن الهوية كـ"نص قلق" أكثر منها جوهرًا.
بدل سرد التاريخ أو توثيقه، تقترح الرواية شكلًا مغايرًا من استعادة الماضي: شذرات، انطباعات، أصوات، لقطات، تشظيات... وهو ما يجعل من "نَفَس الله" نصًا ضد "الحقيقة المطلقة"لصالح "الحقيقة القلقة".
كما أن شخصيات الرواية – وخاصة النساء – لا يحضرن كضحايا نمطيين، بل ككائنات تسكنهن اللا ذاكرة، ويمارسن المقاومة بالصمت،أو الانتظار،أو الحلم.
تُعيد "نَفَس الله" تعريف الرواية بوصفها حفراً داخليًا لا يتوسل الترف الجمالي ولا الادعاء الإيديولوجي، بل يبحث عن الحقيقة حيث لا يجرؤ العقل وحده. الرواية لا تُحاكم التاريخ، بل تجرّده من سلطته الوثوقية، وتطرح بدلًا منه تجربة وجودية يكون فيها السرد بحثًا عن عدالة الذات في عالم يغري بالنسيان.
في رواية "نفس الله"، لا أحد يملك ماضيه بشكل نقي. كل ماضٍ هو طيف، وكل هوية هي احتمال مفكك. مرآة سردية لمشروع فكري وأخلاقي يحاول أن يجعل من الأدب أداة لفهم الإنسان في أوج هشاشته. حيث يشتغل النص على تخييل الهوية في وضع مأزوم. أحمد، البطل، يتعرض لحادث غامض يُفقده ذاكرته، ويبدأ رحلة صراع داخلي لاستعادة ماضيه وهويته بين "الهنا" و"هناك"، هويته السابقة كأستاذ ومؤرخ وناشط في "العدالة الانتقالية" تعود تدريجيًا خلال الرواية، ما يعكس صراع البطل الشخصي والمجتمعي، هو تجسيد لفقدان الـ"أنا"، في ما يشبه الحالة التي وصفها شتاينر بـ"الوجود المتشظي"، وهي وضعية الذات الحديثة التي لم تعد تملك يقينًا حول مصدرها أو غايتها. الرواية، في بنيتها المفككة، تعكس هذا القلق المعاصر حول من نكون حين نفقد القدرة على تسمية أنفسنا.
فيما تمثل زوجته لويزة/أنخيلا الكبت والخوف من الذاكرة، لأنها بنت وجودها العائلي على نسيان الماضي وتخشى أن يؤدي استعادته إلى انهيار حياتهما، فيما جلجل شخصية تسعى لحفظ القيم والذاكرة، ظل يبحث عن والدته في عالم يشبه متاهة بورخيس، صراعه هو مزيج من التمزق والبحث عن الانتماء والهوية وسط الإشكالات الجماعية الكبرى.. إن الشخصيات المركزية: أحمد، لويزة/أنخيلا، جلجل، تعبر عن هويات مشتتة ومتبدلة، كلٌ واحد منها يعكس شكلاً من التوتر بين الماضي والمستقبل، الداخل والخارج، القيم والتغيير.
بينما يمثّل "جلجل" بُعدًا آخر للهوية، هو بُعدها الوصائي/اللاواعي، كأنه "الأنا الأعلى" الذي يُراقب الكتابة ويجرّها نحو الالتزام الأخلاقي، أو كأن السرد لم يعد مساحة حرة، بل محكمة رمزية تتجول فيها الأشباح وتُعيد كتابة الجريمة الأصلية: الصمت.
الميتاسرد ومحو الوثوقية: عندما يُحاكم النص نفسه
من أبرز خصائص "نَفَس الله" هو ذلك الحضور الكثيف للوعي السردي بذاته. فـ"جلجل" ليس فقط شخصية، بل هو تمثيل للوعي الناقد الذي يسكن الرواية. إنه قارئ داخلي، يُصحّح، يُعلّق، يُمارس السلطة على الكاتب، ويُشبه ما يسميه جيرار جنيت بـ"النص الذي يُراقب عتباته". جلجل، الخارج من معجم لغوي، لا يشبه أي كائن روائي آخر: إنه "اللغة وقد استيقظت لتُحاكم صمتها". إذ يُعد "جلجل" من أكثر عناصر الرواية فرادة، بوصفه كائنًا ميتاسرديًا يخرج من المعجم "المنجد" ليحاور الكاتب، حيث تتحول الكتابة إلى ساحة صراع بين ما يُكتب وما ينبغي أن يُكتب. حيث يُصبح النص واعيًا بذاته، ويتجادل الكاتب مع كائن سردي يحرس المعنى، اللغة، والأخلاق. هذه المراوحة بين "جلجل" والكاتب، هي تجسيد لما يسميه براين مك هيل بـ"السرد ما بعد الكلاسيكي"، الذي لا يروي العالم بل يروّي وعيه بالعالم.
ما يجعل "نَفَس الله" نصًا فارقًا هو لغته، فليست اللغة هنا أداةً للسرد بل عنصرًا جوهريًا في بناء الوعي.. الجمل قصيرة، موجعة، تستحضر الصمت أكثر مما تقول. المفردات كأنها تتوضأ قبل النطق: "الدمعة"، "النَفَس"، "الظل"، "الغفران"، "العدم"...
نستعيد هنا تصور هايدغر عن اللغة ك"بيت للكينونة"، حيث كل مشهد روائي في "نفس الله"، كل شذرة هي محاولة للإنصات إلى الحقيقة الغائبة، إلى ما لا يُحتمل تسميته، وإلى صوت الله نفسه كما يتردد في الذاكرة المعطوبة.
الكتابة هنا لا تمضي في سلاسة الحكي، بل تتعثر عمدًا، تتوقف، تتأمل. هذه التقنية تُدخل الرواية في فضاء ما بعد الحداثة، حيث يُصبح السرد مسرحًا لأزمته الذاتية، وتُنتج اللغة توترًا لا بين الشخصيات فحسب، بل بين الكاتب ونصه، النص وخطابه، الخطاب وصداه.
تتجلى اللغة "في نَفَس الله "ككائن مستقل، لا كأداة وصف أو نقل بل ككثافة روحية وشعرية. تسير الجمل في إيقاع تأملي، تُقيم في مفردات مثل "الدمعة"، "الصمت"، "الانتظار"، "النَفَس"، وكلها تحيل إلى حالة روحية تسكن النص وتجرّده من الواقعية الضيقة. حيث تصير اللغة نفسها استحضارًا للحقيقة الغائبة، وليست وسيلة للبحث عنها.
في البنية اللغوية للرواية، نتذكر تصور هايدغر بقوة، حول اللغة كمنزل للكينونة، وأنها لا تعني الأشياء بل تكشف عنها. لغة بوطيب، في طابعها الشعري لا تسمي الأشياء بل تلامسها كأنها ضوء على الحافة. إنها ليست وسيلة تواصل بل فضاء أنطولوجي يتكوّن فيه المعنى لا عبر التسمية بل عبر الصمت والتأمل.
رواية "نفس الله" تُنصت أكثر مما تُروى، وفق ما أكده موريس بلانشو في أطروحته عن "الكتابة والصمت"، حيث تصبح الكتابة طريقة في الإنصات إلى ما لا يُقال.
ختاما "نَفَس الله" ليست رواية عن العدالة ولا عن الضحايا، بل هي محاولة أدبية لمرافقة انهيار الإنسان حين ينفصل عن ماضيه. لا تقترح الرواية خلاصًا، ولا تعِد بمصالحة، بل تكتب الألم كما هو: متشظٍّ، متأخر، ومتورط في نَفَس الله.
إنها رواية تُصغي إلى العطب دون أن تداويه، وتُعلّم القارئ أن أعظم ما يمكن أن نملكه، هو ذاكرة قابلة للصفح.