: آخر تحديث

التحديات الفكرية وتجدد الأقنعة

4
4
3

أحمد محمد الشحي

من أخطر ما يواجه المجتمعات في كل زمان ومكان، الشبهات الفكرية التي تنخر في عقول أفرادها، وتوجه سلوكياتهم وطاقاتهم بما يضر بهم، وبمجتمعاتهم وأوطانهم، ويخل بتعاملهم مع محيطهم المجتمعي والقيادي، وينفث في صدورهم المشاعر السوداوية التي تجعلهم ناقمين، يبثون الطاقات السلبية حولهم، سواء كانت ذات طابع عنصري أو طائفي أو أيديولوجي، أو عنف جرائمي، وتكرس فيهم روح التعصب، واستفزاز الآخرين، وخلق أجواء من التوتر والاحتقان، ما يجعل المجتمعات على صفيح براكين قابلة للانفجار.

هذه الشبهات الفكرية تتجدد عبر العصور، وتلبس أقنعة متنوعة، وتتكيف مع كل بيئة وظرف، فلا تقتحم العقول اقتحاماً مباشراً، بل تتخفى وراء شعارات براقة، وألفاظ جذابة، لتعود بأثواب جديدة، وهنا تكمن خطورتها، إذ يتوهم الناس أنها منهج شرعي قويم، أو مشروع ديني إصلاحي، أو بديل حضاري، أو رؤية عقلانية تقدمية، بينما هي في حقيقتها إعادة إنتاج لمقولات قديمة، جلبت على الأمة الويلات، غير أنها لبست أثواباً جديدة، لتنال حظاً أوفر من القبول.

ومن هذه التيارات التي تمثل دوامات خطيرة للشبهات الفكرية «الإخوان» و«السروريون» وتنظيم القاعدة وغيرها، وجماعات العنف والتكفير، والتيارات الانحلالية التي تجعل الفرد وحرياته محور الوجود، فلا اعتبار لأسرة ولا مجتمع ولا وطن، بل ولا حتى لمصلحة الفرد نفسه، وتلتقي كل هذه التيارات الدينية والفكرية، حول إلغاء النظرة المصالحية والمقاصدية في التعاطي، وتغليب النظرة الأيديولوجية والأجندات الحزبية والتوجهات الضيقة.

فإذا كانت التيارات المتطرفة القديمة ترفع شعارات التكفير والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حسب مفاهيمها الخاصة، فإن بعضاً منها اليوم توظف مسميات الحرية والحقوق والديمقراطية وتداول السلطة، لتحقيق نفس الأهداف بذات الأجندات، لتوحي بأنها تيارات متقدمة، بل إن منها ما قد يوظف مسميات الوطنية والهوية والدولة المدنية وغير ذلك، للتسويق لنفسها على أنها قوى وطنية، تسعى للنهضة والبناء، وكل ذلك يمثل تحدياً كبيراً في تشخيص التيارات والتوجهات الفكرية، والتقييم الصحيح للعلاقة بين الشعارات المرفوعة والممارسات المرحلية والغايات الحقيقية.

ومن أخطر مظاهر تجدد الأقنعة المتعلقة بالتحديات الفكرية، الانتقال من مرحلة المواجهة والصدام المباشر مع قيم الاعتدال والثوابت، إلى التسلل الناعم في المجتمع، والتدرج المرحلي في ذلك، واللعب على وتر العاطفة وتهييج المشاعر، فلا تقتصر الأقنعة على الكلمات، بل تمتد إلى استثارة المشاعر، فكم من خطاب التفّ على قيم الرحمة والعدل، ليبرر التطرف أو العنف، أو اتكأ على مظلومية معينة، ليبرر الانحراف، جاعلاً من تحريك العاطفة وسيلة لإضعاف قدرة العقل على النقد.

ومن مظاهر تجدد الأقنعة، توظيف الوسائل التقنية، فإذا كانت الأفكار الوافدة في السابق تصل عبر كتب أو منشورات محدودة الانتشار، فهي الآن تجد في الفضاء الرقمي مجالاً واسعاً لبث رسائلها، لتغلف خطابها في قوالب جذابة ومؤثرة، تجعلها أكثر حضوراً في الحياة اليومية، وأسرع وصولاً إلى العقول.

إن مواجهة هذه التحديات، تتطلب وعياً جماعياً وثقافة استباقية، ترتكز على تكريس المواطنة الصالحة، والتعليم الناجع، والتوعية الفكرية، وتعزيز الوعي الديني، ومناهج النقد العقلاني، وبناء القدرات التحليلية، ليمثل ذلك خط الدفاع الأول ضد الانجراف وراء الشعارات البراقة والأقنعة الجديدة، ويصبح المجتمع أكثر صلابة، حين يعرف أفراده كيف يميزون بين الأفكار الصحيحة والمغلوطة.

ومن أهم استراتيجيات الحماية الفكرية، تعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية والوطنية، إذ إن الأسرة والمجتمع والوطن، يمثلون مناعة طبيعية للفرد ضد التلاعب الفكري، فالشباب الذين ينشؤون في بيئة صحية تغرس فيهم القيم الأصيلة، وتكرس لديهم روح الانتماء والاعتدال، يكونون أكثر ثباتاً، وأقل ميلاً لتصديق الشعارات المزيفة، وأكثر قدرة على التفكير السديد، واتخاذ المواقف الصحيحة، بما يضمن نقل المعرفة الصحيحة والثوابت المجتمعية عبر الأجيال، وحماية المجتمع والوطن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد