لو تأملنا النقاش التاريخي حول مفهوم الدولة قديمه وحديثه، لوجدنا أنه مفهومٌ تتنازعه العصبيات والعرقيات والسلطات والآيديولوجيات؛ وما كانت الحروب إلا حالة صراع على السلطة، أياً كانت السلطة، وبالتالي فإن الدولة هي نمط تشكّل لما بعد صراع الإنسان مع الإنسان.
ما يهمنا حالياً مفهوم الدولة بالمعنى الحديث لعالمٍ تشكّل بعد اتفاقية وستفاليا عام 1648؛ حيث تبلور المفهوم المتكامل للدولة الضامن للسيادة وبسط السلطة في الداخل، وعدم التدخل بشؤونها. إنها لحظة سيادة الدولة الوطنية المستقلة.
لقد حدثت كوارث وتحديات كبرى حول هذا المفهوم في القرون الثلاثة التالية للاتفاقية حيث الحروب الأهلية في الشرق، ونشوب حربَيْن عالميتَيْن كارثيتَيْن في الغرب، ولكن بقي المفهوم قوياً؛ حيث نجحت المعالجات الجديدة له في تجديد معنى الدولة ضمن صياغات دستورية وقراراتٍ أممية مهّدت الطريق أمام العالم لدخول زمن الدولة القويّة المستقلة.
في عالمنا ومحيطنا بقي مفهوم الدولة مشكلةً، لأنه تكوّن تاريخياً عبر «الخلافات» المتعاقبة، وكل فرعٍ يحكم لديه استراتيجياته وأطماعه وأسلوبه ونهجه، ولكن بعد تغيّر العالم لا مناص من اللحاق بركب هذا التطوّر الملهم، نجحت دول وفشلت أخرى، وهذا الفشل وهذا والنجاح نراهما في الصراعات الدائرة اليوم، لكن كل ذلك يحتّم علينا رصد العثرات التي منعت نشوء الدولة الوطنية السيادية في عددٍ من دول الإقليم.
بإزاء الدولة الممكنة التي نريدها، ثمة مفهوم آخر طُرح في دراستَيْن، الأولى: عنوانها «الدولة المستحيلة في الإسلام» للأستاذ وائل حلاق، وخلاصتها -كما في عرض الأستاذ رضوان السيد لها- أن «مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق، وينطوي على تناقض داخلي، وذلك حسب أي تعريفٍ سائد لما تمثّله الدولة الحديثة، فحتى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة 12 قرناً قبل ذلك، كان قانون الإسلام الأخلاقي المعروف باسم الشريعة ناجحاً في التفاعل مع القانون المتعارف عليه». الدراسة الأخرى: «الدولة المستحيلة في أفريقيا» للأستاذ حمدي عبد الرحمن، يبحث فيها عن الصعوبات التي منعت نشوء دولة قويّة ومستقرة في القارة الأفريقية، وثمة عوامل لذلك منها الإرث الاستعماري كما يقول، كما أن «الكولونيالية» أسهمت في تضعضع الدولة، بالإضافة إلى فشل تبيئة مفهوم الدولة بالمعنى الأوروبي وتطبيقه على القارة الأفريقية؛ لهذا وغيره صار تأسيس الدولة أكثر صعوبةً.
أحسبُ أن تأسيس الدولة ليس مستحيلاً حين يكون الهيكلان النظري والعملي منضبطَيْن ببصيرةٍ فاحصةٍ للواقع ومستعدَّيْن لمفاجآت المستقبل. الدولة معنىً شاسع حين نبحثها بالمعنى الأكاديمي المتشعّب؛ إذ كل تطبيق لمفهوم الدولة يتضمّن تعريفاً له بالضرورة، كما يعبّر الفقيه القانوني جورج بوردو، فالتعريف للدولة يأتي حسب المنطلق، تعريف الجغرافي غير تعريف السوسيولوجي، وغير المؤرخ، وهكذا.
إن كل نمطٍ من التوحّش أو الاضطراب يبرهن على ضرورة وجود فكرة الدولة، يفسّر جورج بوردو هذا القول بأن «الدولة إذا كانت عبارة عن فكرة، فإنها لا توجد إلا لأنه تم التفكير فيها، ولعل مبرر وجود هذا التفكير هو مكمن ماهية الدولة. وهذا المبرر ليس لغزاً، بل إن بساطته ساطعة؛ فالإنسان ابتكر الدولة لكي لا يطيع الإنسان».
الخلاصة؛ إن كل تأسيس مزمعٌ حالياً بغية ردم الفجوة بين الإنسان والإنسان لمنع الحروب الأهلية أو النزاعات الداخلية، يجب أن يكون أساس بنائه منطلقاً من مفهوم الدولة بكل ما يحمله من شروط. إنه لمن المرعب والمخيف على المستويَيْن النظري والعملي أن تُرتهن الدولة من قِبل فصيلٍ يشبه الدويلة، وبالتالي تتحرّك كل الأفكار والسياسات وتُرسم كل التوجهات والمصائر على النمط الذي يحدده هذا الحزب الانفصالي، بفضل القوة المحتكرة للقرار السيادي والمخطوفة بالقنبلة والصاروخ.
الدول المنكوبة تكرر يومياً عبر سياسييها وإعلامييها سؤالاً، وهو: «أين الدولة؟»... إنه سؤالٌ مشروع وأساسي، لكن قبل كل ذلك أين البيئة السياسية التي تريد فعلياً بناء الدولة؟! هل سلوك السياسيين يعبّر عن اندفاعٍ حقيقي تجاه ذلك التأسيس المنشود؟!