لم يعد الصراع بين دولة إسرائيل وأعدائها من الدول والتنظيمات الإرهابية مجرد مواجهة ميدانية محدودة، بل أصبح مطاردة مفتوحة تتجاوز الجغرافيا وتكسر الحدود التقليدية للسيادة. هذا الصراع هو حرب وجودية لشعب إسرائيل، وهي حرب عابرة للحدود تتجاوز الجغرافيا والسيادة.
بعد مجزرة السابع من أكتوبر، اتخذت إسرائيل قرارًا استراتيجيًا حاسمًا بأن معركتها لم تعد مرتبطة فقط بمن يمارسون الإرهاب ميدانيًا في غزة، بل ستشمل أيضًا كل من يشرعن الإرهاب أو يغذّيه بالتحريض والدعاية. وفي هذا الإطار جاء اغتيال أبو عبيدة، الذي لم يكن مجرد ناطق باسم حماس كما يحلو للبعض وصفه، بل إرهابي متكامل مارس الإرهاب وكان عضوًا فاعلًا فيه، وأدّى دورًا مباشرًا في تأجيج العنف وتغليف الجرائم بخطاب أيديولوجي مسموم، ليصبح بذلك هدفًا إرهابيًا واجب التحييد والإزالة ضمن بنك الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية. تصفيته لم تكن حدثًا عابرًا، بل امتدادًا لمنهج واضح يثبت أن من يساهم في إنتاج الموت، بالسلاح أو بالكلمة، يُعامل بالمنطق ذاته وذلك بالإزالة من المشهد.
الحقيقة ان تل أبيب بنت سياستها على مبدأ أمن شعبها وسلامته أولًا، وعلى مبدأ تحييد الخطر وإزالته عبر تعقّب الإرهابيين وتصفيتهم أينما وجدوا. فهي تدرك أن التسامح أو التساهل مع الإرهاب فاتورته باهظة ومكلفة، ولذلك فإن اجتثاث قيادات وعناصر الإرهاب وتعقّبهم يشكّل أولوية قصوى للأمن القومي في الدولة العبرية. لذلك فإن كل اسم محفوظ في أدراج أجهزة المخابرات الإسرائيلية ينتظر لحظة التنفيذ. أحيانًا يطول الانتظار، لكن النتيجة واحدة، وهي، انهم أحياء لكن أموات مؤجلون. هذه المعادلة في حد ذاتها عنصر من عناصر الحرب النفسية، إذ تجعل كل قائد ارهابي يعيش في ظل الخوف الدائم، مدركًا أن ضربة قد تأتيه في أي لحظة، سواء كان في نفق مظلم ومستخفي بالليل أو ظاهر في النهار يعيش في جناح فخم داخل عاصمة إقليمية.
اغتيال أبو عبيدة لم يكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من عمليات الانتقام الشرسة التي لا تهدأ ولا تكل منها أجهزة الامن الاسرائيلية. وقبله جاء اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران، كرسالة مدوية بأن حتى أكثر البيئات الأمنية تحصينًا لا تمنح حصانة لأعداء اسرائيل. واليوم، تُظهر إسرائيل أن استهداف قيادات الإرهاب لم يعد مقتصرًا على غزة أو محيطها، بل بات سياسة عابرة للحدود. وما عملية اغتيال معظم من يُطلقون على أنفسهم حكومة الحوثي إلا دليل إضافي على ذلك. فهي لم تكن مجرد عملية عسكرية، بل صفعة استخبارية تثبت أن يد إسرائيل العسكرية والاستخبارية قادرة على الوصول إلى عمق دول بعيدة واختراقها، وأن المسافة لا تمنح حماية، وأن الحساب قد يتأخر لكنه لا يسقط. لقد حملت تلك العملية رسالة مزدوجة بأن كل من سيشكّل تهديدًا إرهابيًا لإسرائيل وشعبها سيكون في مرمى ضرباتها المميتة وهدفًا شرعيًا متى شاءت تل أبيب. وكما يقول المثل العربي، ولابد من صنعاء ولو طال السفر ، فإن إسرائيل تؤكد أن الانتقام فو فقط مسألة وقت، والزمن قد يطول لكنه لا يمنح نجاة.
اللافت أن هذه القيادات الإرهابية كانت تبني أوهامها على خطاب شعبوي يختزل المعركة في الميدان. أسامة حمدان قالها بوضوح: من سيقول الكلمة الأخيرة هو الميدان، وليس سوى الميدان. والواقع أثبت أن الكلمة الأخيرة فعلًا للميدان، ولكن ليس على النحو الذي تشتهيه حماس الارهابية وقياداتها المعتوهة، إذ إن الميدان تحوّل إلى محفّز لقواعد جديدة تشمل عمليات اغتيال نوعية تغيّر معادلات اللعبة. أما أبو عبيدة نفسه، فقد ظل يردّد في بياناته: أن غزة كانت وستكون مقبرة للغزاة، ليتحوّل بعد اغتياله إلى شاهد على أن من يبشّر بالمقابر قد يسبق الآخرين إليها.
في ضوء ذلك، يتضح أن هذه الاغتيالات ليست مجرد ردود أفعال على أحداث آنية، بل تعبير عن عقيدة أمنية ثابتة ترى أن الردع الحقيقي يتحقق عبر عمليات التصفية المستمرة، وإغراق الخصوم في النحيب، وتوجيه الضربات القاضية إلى رؤوس الشياطين. من وجهة نظري كمراقب، أرى أن إسرائيل تعتبر هذه السياسة أداة لا غنى عنها لصيانة أمنها القومي، حتى لو استدعى الأمر مواجهة ضغوط دبلوماسية أو سياسية. فالبراغماتية التي تحكم القرار الإسرائيلي تضع أمن شعبيها فوق كل اعتبار آخر، وتُبقي على الرصاصة جاهزة ما دام الخطر قائمًا.
الأثر الأعمق لهذه العمليات لا يُقاس بعدد المستهدفين فقط بل بوقعها النفسي. ويكسر وهم الأمان الكاذب حتى لمن يعتقدون أنهم أهداف صعبة أو تحت حماية عواصم إقليمية. كل قيادي إرهابي، مهما علت رتبته أو وزنه، من غزة إلى لبنان، ومن إيران إلى صنعاء، ينتهي مثالًا صارخًا على أن إسرائيل قادرة على الوصول إليهم ولو كانوا خلف جدران محصنة تحت الأرض، وتحويلهم إلى عبرة. إنها حرب رمزية بقدر ما هي مادية، وهدفها أن يبقى كل قائد إرهابي مدركًا أن الزمن قد يطول، لكن النهاية محسومة، وتل أبيب تقرر وتنفذ.
وهكذا، يبدو أن سياسة تحييد وتصفية الأهداف الإرهابية واضحة لا لبس فيها وان القائمة مفتوحة، وبنك الأهداف لدى الموساد، واجهزة المخابرات الإسرائيلية، لا يزال زاخرًا بالكثير، والاستهدافات العسكرية والاستخباراتية لن تتوقف، ولن تُطوى صفحة الماضي. ومن يظن أن المسافة تمنحه أمانًا سيكتشف أن الأمان وهم، ومن يتوهم أن الدول الإقليمية توفر له الغطاء سيجد أن هذا الغطاء هش لا يصمد أمام الذراع الطويلة. إن الرسالة التي تبعثها تل أبيب اليوم هي أن لا حصانة لقيادات الإرهاب، وأن منطقها بسيط لكنه حاسم: ما دام الإرهاب قائمًا، فالموت يظل المصير المحتوم لقادته.