كشفت الحرب على غزة الصراع الحقيقي على القضية الفلسطينية وأعادت الصراع على الأولويات، وعادت بنا لسنوات النشأة الأولى للقضية الفلسطينية ومقاربة الدولتين التي أقرها القرار الأممي رقم 181 عام 1948 والذي بموجبه تم تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية على مساحة 54 بالمئة ودولة عربية على مساحة 34 بالمئة والقدس تحت الوصاية الدولية، وهذا القرار لا يمكن أن يُقرأ إلا في سياقه الزمني والتاريخي، وما كان يمكن أن يصدر لولا قوة وتحكم بريطانيا والولايات المتحدة بعملية التصويت في الأمم المتحدة، وبالرغم من أنَّ القرار جاء على حساب الأغلبية السكانية الفلسطينية وملكية الفلسطينيين لكل الأراضي الفلسطينية، كان بمثابة الانطلاق لإسرائيل لتحقيق حلمها بالدولة اليهودية وإحياء مفهومها لإسرائيل الكبرى الذي أعاد إحياؤه من جديد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأحد تداعيات الحرب على غزة، فكانت حرب 1948 والتي بموجبها احتلت إسرائيل حوالى 28 بالمئة من الأرض المخصصة للدولة الفلسطينية، وضمت كل الأراضي مع حرب 1967 باحتلالها كل الضفة وغزة لنصل اليوم مع حرب غزة للهدف الحقيقي لإسرائيل برفض الدولة الفلسطينية تحت ذرائع وحجج واهية وبإحياء لسردية إسرائيل الكبرى وأساسها كل فلسطين لتنطلق منها للدول العربية المجاورة، ومن هذا المنظور يعتبر قيام الدولة الفلسطينية التحدي الأكبر والعائق الأكبر أمام هذا الحلم والوهم السياسي.
ونرى اليوم تفعيل سياسات الاستيطان والتهويد في الضفة، ومحاولة تدمير كامل للحياة في غزة والدفع نحو عملية تهجير لسكانها البالغ عددهم الملايين، فمشكلة إسرائيل الحقيقية في التواجد السكاني الفلسطيني، وأساس أي دولة تجميع سكانها وتثبيت هويته الوطنية، ولذلك الحرب الحقيقية لإسرائيل هي الحرب على الدولة الفلسطينية، ومهاجمتها لأي دولة تعترف بفلسطين الدولة. وعليه فلعل أكبر تداعيات الحرب على غزة إحياء هذا الصراع. الفلسطينيون من جانبهم أعادوا متأخرين حل الدولتين، واليوم يبلغ عدد الدول التي تعترف بفلسطين الدولة 153 دولة، وخطت هذه الدولة خطوة متقدمة بالاعتراف بها كدولة مراقب في الأمم المتحدة وقبولها في أكثر من منظمة دولية، ومع حرب الإبادة على غزة وتدمير كل مظاهر الحياة المدنية انتشرت أصوات كثيرة في العديد من الدول بما فيها أميركا وأوروبا وكان نتيجتها الضغط في اتجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية وخصوصاً من قبل فرنسا وبريطانيا والأخيرة تتحمل مسؤولية تاريخية في قيام ونشأة القضية الفلسطينية.
ومن تداعيات الحرب أيضاً مؤتمر حل الدولتين الذي عقد في نيويورك برئاسة المملكة العربية السعودية وفرنسا وبرعاية الأمم المتحدة وحضور 31 دولة والذي انتهى ببيان ووعد بتبني حل الدولتين والاعتراف بفلسطين دولة، وهو ما أغضب الولايات المتحدة وإسرائيل لنرى مظاهر من التوتر ولأول مرة في علاقات إسرائيل بفرنسا وبريطانيا وأستراليا والمجر وغيرها. تدرك إسرائيل ومعها الولايات المتحدة أنها لن تستطيع وقف الاعتراف بالدولة الفلسطينية وهنا توظيف الولايات المتحدة للفيتو في مجلس الأمن ضد أي مشروع لقبول فلسطين دولة كاملة العضوية تحت الاحتلال، ومن ناحية أخرى حرب إسرائيل على غزة لتهجير شعبها وإلغاء مخيمات اللاجئين وأي دور لوكالة الغوث، وتسريع عملية الاستيطان في المناطق المخصصة للدولة الفلسطينية أي المنطقة ج لتتقلص مساحة السلطة الفلسطينية لما يقارب 12 بالمئة.
والفرضية الرئيسية التي تقوم عليها هذه المقاربة هي الإدراك الإسرائيلي مدعوماً بتأييد غير مسبوق من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنَّ هذا هو الوقت المناسب للتخلص وتصفية القضية الفلسطينية، وغلق كل ملفات القضية كالقدس واللاجئين وإلغاء دور وكالة الغوث، وعملية تهجير للسكان وخصوصاً في ظل أكثر حكومة إسرائيلية يمينية متشددة تؤمن بحلم إسرائيل الكبرى. ومما يشجع على هذا الاعتقاد أن الظروف الداخلية فلسطينياً وإسرائيلياً والبيئة الإقليمية والعربية والدولية هي الأنسب للتخلص من العقدة الفلسطينية وغلق ملف القضية، وهذا هو الهدف الاستراتيجي للحرب على غزة وتداعياتها في الضفة الغربية بتسريع الاستيطان.
في المقابل، هناك تطور إيجابي ولو كان رمزياً وهو الاعتراف بالدولة الفلسطينية. هذا الاعتراف يحتاج إلى رؤية فلسطينية شاملة مدعومة عربياً ودولياً وأولها التخلص من حالة الانقسام السياسي بين حماس وفتح ودعم تواجد السلطة وتفعيل هذا القرار في الأمم المتحدة بالانتقال من حالة دولة مراقب لدولة كاملة العضوية تحت الاحتلال، ولتحقيق هذا الهدف يحتاج الأمر إلى تأييد مجلس الأمن وهنا عقبة الفيتو الأميركي، وللتغلب عليه يمكن تحويل القضية تحت بند الاتحاد من أجل السلام والتصويت في الجمعية العامة وترجمة هذا الاعتراف للتأييد، وهي مرحلة مهمة لو تحققت تصبح مسؤولية الأمم المتحدة المباشرة رفع الاحتلال عن دولة عضو في الأمم المتحدة. والجانب المهم أيضاً ترشيد السلطة الفلسطينية وتفعيلها والتوافق حول وسائل المقاومة السلمية لتعرية الموقف الإسرائيلي. الاعتراف خطوة مهمة على طريق طويل من العمل السياسي.