من دون أي مقدمات، اندلعت اشتباكات عنيفة في مخيم برج البراجنة الواقع في ضاحية بيروت الجنوبية، ما أرغم العديد من العائلات المتواجدة على النزوح إلى مناطق داخل المخيم لم تطلها نيران الاشتباكات.
الاشتباكات في المخيمات الفلسطينية بلبنان ليست أمرًا جديدًا، وإن خفّت وتيرتها منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2023، لكن المفاجأة هذه المرة كانت في الزمان والمكان، في ظل ظروف بالغة التعقيد تمر بها بيروت وسط صراع سياسي بين الحكومة و"حزب الله".
فقبل أسابيع قليلة، أعلنت الحكومة اللبنانية تسلّمها السلاح الثقيل من حركة "فتح" في مخيم برج البراجنة نفسه، وعلى الرغم من أن صورة "البيك آب" التي نُشرت وقيل إنها تحمل السلاح الثقيل لم يأخذها كثيرون على محمل الجد، فإن الإعلان الحكومي، ثم تسليم أسلحة ثقيلة في مخيمات أخرى، جعلا الفئة المشككة تلتزم الصمت بشكل مؤقت.
وما أضفى على مشهدية تسليم السلاح في برج البراجنة طابعًا من الجدية، كان تصريح طوم براك، سفير الولايات المتحدة في تركيا، ومبعوث الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى سوريا ولبنان. براك، وفور نشر صورة "البيك آب"، سارع إلى كتابة منشور على "إكس" قال فيه: "نهنئ الحكومة اللبنانية و(فتح) على اتفاقهما حول نزع السلاح طوعًا من مخيمات بيروت"، وعدّ أنه "إنجاز عظيم جاء نتيجة الخطوة الجريئة التي اتخذها مؤخرًا مجلس الوزراء اللبناني، وخطوة تاريخية نحو الوحدة والاستقرار".
وعلى بُعد يومين من جلسة الحكومة التي يُحبس اللبنانيون أنفاسهم بسببها، في انتظار مناقشة الوزراء لخطة الجيش اللبناني لنزع سلاح "حزب الله"، جاءت اشتباكات مخيم برج البراجنة لتضعف موقف حكومة نواف سلام داخليًا أمام الأطراف اللبنانية وعلى رأسها الحزب، وخارجيًا أمام الدول المطالبة بنزع السلاح، وعلى وجه التحديد المبعوث الأميركي الذي كان أول المهنّئين للحكومة، قبل أن يتبيّن، ليل الأربعاء، أن السلاح الثقيل لا يزال في المخيم، والأسوأ أن الاشتباك لم يقع بين فصيلين فلسطينيين أو أكثر كما جرت العادة، وإنما بين عائلات في المخيم. فإذا كانت العائلات لا تزال تحوز على سلاح ثقيل، فكيف يمكن تصديق قيام فصائل مسلحة بتسليم سلاحها؟
وقبل يوم الجلسة المنتظرة، تقف الحكومة على مفترق طرق حاسم، إذ رفع "حزب الله" من مستوى التصعيد الكلامي إلى أقصى حد، والعهد الجديد يعلم أن عدم الوضوح في الموقف، والتغاضي عن وضع خطة طريق واضحة، سيُفقد لبنان دعم الدول العربية والغربية، وسيُبقيه بمفرده في مواجهة حكومة بنيامين نتانياهو، التي تطلّع إلى توسيع رقعة الاستهدافات لمواقع وعناصر "حزب الله"، ما يعني استمرار الانكماش الاقتصادي، وموجة نزوح جديدة، وشلل حركة الطيران.
وبلا أدنى شك، فإن ما شهده المخيم وضع الحكومة في موقف صعب ومحرج، خصوصًا أمام المبعوث الأميركي، طوم براك، الذي يعاني هو الآخر من عدم القدرة على حل الملفات الشائكة التي تسلّمها، سواء في لبنان أو في سوريا، نتيجة الأحداث المتسارعة. ففي حين كان الملف السوري يتمحور حول مشكلة اندماج الأكراد في الشمال الشرقي، جاءت معارك ومجازر السويداء لتضيف ملفًا ثانيًا على الطاولة، ثم ظهرت مشكلة أخرى في الساحل السوري تتعلق بالمطالبة بالفدرالية. أما في لبنان، حيث ساد اعتقاد واسع بأن ملف السلاح الفلسطيني أصبح بحكم المنتهي، وأن الأنظار توجهت إلى سلاح "حزب الله"، فقد جاءت الضربة من المخيم الذي دفعه إلى تقديم التهنئة للحكومة اللبنانية بعد إعلانها تسلم السلاح.
مشكلة سلاح "حزب الله" هي أول وأخطر اختبار جدي وحاسم للدولة اللبنانية منذ اتفاق الطائف؛ فمن جهة، تسعى أي سلطة في العالم إلى حصر السلاح بيد مؤسساتها الأمنية والعسكرية لفرض سيادتها، وهذا مطلب محلي قبل أن يكون عربيًا أو غربيًا أو أميركيًا، ومن جهة أخرى، لا يزال "حزب الله" يقاتل للدفاع عن بقاء السلاح بيده دون إبداء أي تبريرات. فـ"سردية" الصراع مع إسرائيل وردعها انتهت بقبوله، أولًا، بالانسحاب من منطقة جنوب الليطاني، أي الخروج من المنطقة الحدودية، وثانيًا، بفشل ترسانة سلاحه في مواجهة السلاح الإسرائيلي. ولذلك، إذا كان التمسك بالسلاح يرتبط بأسباب دينية، أو يهدف إلى عقد صفقة تُمكّنه من الحصول على مكتسبات سياسية داخل النظام، فإن هذا الأمر سيدفع بمعارضيه إلى المطالبة بتغيير النظام السياسي القائم من الأساس، والاتجاه نحو الفدرالية.