: آخر تحديث

سائرة في عوالم البلطيق

3
2
3

ما إن بدأ قبطان الطائرة يخبرنا بربط الأحزمة استعداداً للهبوط إلى مطار العاصمة فيلنيوس وسط لوحة خضراء من الجمال الرباني كنا نحلق فوقها، حتى بدأت أقاوم تصوير عملية الهبوط اعتقاداً مني أن هذه اللوحة لن تدوم أكثر من خمس دقائق، وإلى حين تشغيل موبايلي إلى وضعية التصوير، سيكون المشهد الخضراوي قد اختفى. لكن عملية الهبوط استمرت أكثر من ثلاثين دقيقة، وعيناي تعلّقت بالأرض التي كنا نحلق فوقها. سبحان الله! لا أذكر أني حلقت في الطائرة لمدة نصف ساعة متواصلة فوق هذا الكم من الخضار الوافر. أعدت تشغيل الهاتف وصورت لأكثر من عشر دقائق ولم ينتهِ المشهد.

في ليتوانيا، كانت أولى محطات اكتشافي لتلك الشعوب التي سكنت ضفاف بحر البلطيق منذ آلاف السنين، وكانت قبائل وثنية وفقاً لما نقلته الحوليات الإيطالية الواردة في المتحف الوطني لفيلنيوس، واعتنقت الدين المسيحي بعد تداخلها مع القبائل "الجرمانية"، وبسبب تشابك تاريخها مع الدول المجاورة مثل السويد ودوقية موسكفا "روسيا حالياً" التي قامت بدورها على أنقاض دولة "كييف روس" (أوكرانيا)، فلم يقتصر الأمر على المذهب الكاثوليكي أو الأرثوذكسي بل اعتنقت المذهب اللوثري التبشيري عن قسيس ألماني، وأقامت دولة الكومنولث مع بولندا وأصبحت (مملكة ليتوانيا وبولندا). مرَّ تاريخها بالكثير من التقلبات، لدرجة أنها اختفت عن الخريطة - مثل بولندا - في الحرب العالمية الثانية بين السوفييت والنازيين، وإثر انتصار السوفييت على ألمانيا النازية، سمحت روسيا لنفسها بالاحتفاظ بالدول التي سيطرت عليها وفقاً للمعاهدات السابقة مع النازيين إلى أن تفكك الاتحاد السوفيتي، وأعلنت ليتوانيا استقلالها في مطلع التسعينات. ولذلك لن يكون مستغرباً كراهية الليتوانيين للروس في دمائهم.

فيلنيوس العاصمة، مدينة أوروبية بامتياز، لدرجة أنه أصبح من الصعب تقفّي أثر طبائع أحفاد تلك الشعوب، لكن التعرف على التاريخ الليتواني القديم بدا مثيراً للغاية، وقد صحَّت استنتاجاتي حول الخصائص المشتركة للقبائل الرحَّل. فعلى سبيل المثال، تشترك عقلية القبيلة بمفهوم إنجاب الكثير من الأولاد، لأن الأولاد بالنسبة إلى القبيلة ينطوي على "القوة" و"العزوة" فكلما كان عدد أفراد القبيلة أكثر كلما كانت أقوى.

وللمفارقة، فإنَّ هذه الدولة الصغيرة التي يكاد لا يعرفها أحد، حكمت إحدى سلالاتها التي تعود إلى الملك جيديميناس كامل أوروبا في وقت من الأوقات عبر صلة الدم؛ إذ يروى أن أحد ملوك هذه السلالة أنجب أكثر من ستة ذكور وستة إناث، وقد حرص على تزويج معظم أولاده وبناته إلى ملوك وأمراء أوروبيين من بروسيا (ألمانيا اليوم)، هنغاريا، نابولي، روما، لشبونة حتى أنه وصل إلى عائلة هابسبورغ التي حكمت الإمبراطورية النمساوية.

بهذه المعلومة لا بد لعقلي المشاكس أن يبدأ بالتساؤلات والمقارنة مع القبائل المشرقية! لماذا لم نقرأ عن شيء مشابه في عوالمنا الإسلامية؟! في قبائلنا العربية والإسلامية، إذا استلمت القبيلة الحكم والسلطة، فإما أن يقوم الحاكم الذي هو شيخ القبيلة بإقصاء إخوته درءاً للفتنة، أو يقوم الأخ بقتل إخوته، إن لم نقل الأب بقتل أبنائه، كما ظهر في تاريخ الدولة العثمانية التي يعود نسبها إلى قبيلة الكايا، منعاً للتمرد. لِمَ لم يخطر ببال تلك القبائل بتزويج أولادهم من ملوك وأمراء من العالم العربي والإسلامي؟ كم كان سيبدو العالم المشرقي مختلفاً، وكم من الحروب والمعارك لتجنبناها؟!

خزَّنت هذا الانطباع وحملته معي إلى محطتي الثانية في لاتفيا، لكن ريغا العاصمة خدَّرت عقلي تماماً فطبيعتها حرَّكت قلبي وحواسي. المدينة ساحرة، وخليطها السياحي أضاف لها روحاً وأنقذها من البرود.

تاريخ لاتفيا المعاصر يتقاطع كثيراً مع تاريخ ليتوانيا في ظل "الاتحاد السوفيتي"، وليس من السهل محوه، فقد تحولت معظم المباني الأثرية في المدينة إلى متاحف لتمجيد تضحيات الجيش اللاتفي الذي كان جزءاً من الجيش الأحمر السوفيتي آنذاك.

زرت أحد المباني التاريخية المزركشة في ريغا بعد ترميمها، ويدعى House of the Black Heads. هذا المكان جعلني أتيقن أن مفهوم "التنظيمات" يعود إلى العصور الوسطى وليس إلى التاريخ المعاصر، إذ يُحكى عن عصبة من التجار المخلصين للاتفيا، أسسوا ما يشبه "حركة" لدعم بلادهم اقتصادياً، لكن اكتسبت هذه المجموعة طابعاً دينياً لإضفاء السرية على تحركاتهم في الشدائد وأصبحت أشبه بتنظيم مخفي تيمنّاً بأحد الكهنة المصريين القدامى الذي تعرض للاضطهاد من قبل الإمبراطور الروماني بسبب رفضه قتل "المسيحيين".

بعد لاتفيا وليتوانيا وصلت إستونيا، محطتي الثالثة والأخيرة. ما إن دخلت المدينة حتى اعترتني الكآبة في مبانيها، لا أنهار، ولا طبيعة، ولا حتى شعب. لا شيء على الإطلاق! إيه.. ما هذا؟! وصلت فندقي في المدينة القديمة، وضعت أغراضي، وسألت مباشرة عن اتجاهات المدينة.

مهلاً.. يا لها من مدينة تتقن فنون الكيد! كالحسناء الغاوية، تستدرجك رويداً رويداً بمتاهاتها وحصونها وسراديبها إلى أن تستهويك تماماً. تبين لي أن المدينة القديمة مخبأة جيداً داخل حصونها. إستونيا لا تشبه أخواتها، فهي بحكم موقعها أقرب إلى البلاد الاسكندنافية ويشترك تاريخها مع تاريخ الدنمارك والسويد وفنلندا. فحصن وقلعة kiek in de kok الشهير، تم إنشاؤه للتصدي لأولى غزوات الدنماركيين عبر بحر البلطيق ثم جرى توسيعه بعد أن استولوا عليه، ولاحقاً استُخدم كتعزيزات للروس ثم السوفييت في الحرب العالمية الثانية.

شعرت في تالين العاصمة أنها أكثر صفاءً وتصالحاً مع ماضي دول البلطيق المؤلم، وبدا الشعب يفصل تماماً بين الماضي والحاضر، فيُحيي ذكريات الماضي دون أن يجعله يؤثر على حاضره. تذكرت موسكو في تالين حيث تنتشر الماتريوشكا والفابرجيه في كل الدكاكين.

وأنا سائرة في عوالم البلطيق، تارة كنت أشعر بشعوب جافة بالرغم من روح المدينة الناعم، وتارة كنت أشعر بشعوب تنبض فتضيف سحراً للمكان. هل يكون المزاج هو ما أتحدث عنه؟ هل علينا ابتكار مصطلح جديد للمدن "مدن مزاجية"؟! ربما.. وربما يصعب التنبؤ بها، لكن ختام القول أن طبيعة دول البلطيق آسرة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.