: آخر تحديث

إسرائيل تعيد هولوكوستَها في غزة

2
2
2

في فيلم الرُّعبِ الهولوكوستي الذي تقوم به إسرائيلُ منذ أكثرَ من سنتين في غزة، شاهدَ العالم بأسرِه صورة من بين آلافِ الصُّور لطفلٍ فلسطيني هزيلٍ فتكَ به الجوعُ، وبدا كأنَّه هيكلٌ عظميٌّ. لم تعدْ هذه لقطة استثنائية أو تفرُّداً صحافيّاً، بل أضحَت صورة المشهدِ العام للوَضعِ الفلسطينيّ، يرسمُهَا السَّفاحونَ قتلة الأطفال، وكأنَّ العالم يرى محرقة الهولوكوست ماثلة أمامَه. هذه المحرقة التي سَكنتْ وجدانَ الغرب واستثمرتْها إسرائيلُ علَى مدَى سنينَ طويلة. بل درَّسها الغرب لأطفالِه، وخلَّدها في متاحفِه، واحتفَى بذكراها السنوية.

في خضمِّ هذه المشاهدِ الدَّمويَّة يحاول رئيسُ الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بإصرار شديد، ليس تصفية القضية الفلسطينية فحسب، بل إبادة الفلسطينيين ومحوهم من الوجود، في ظلّ يقظة عالميَّة غير مسبوقة للأعراف بالدولة الفلسطينية، وهو بهذا يعلنُها صراحة أنَّه ضدُّ العالم.

وهذا ما دعَا الرئيسَ الفلسطيني محمود عباس إلى القول بأنَّ إسرائيل تنوي «تدميراً لفلسطين بالكامل»، وهوَ يشاهدُ أمام عينيه عملياتِ القتل اليومية بكل صور التنكيل التي لم يفعلها حتى الفايكنغ وهم يجتاحون أوروبا بهمجية ووحشية لا نظير لهما.

خارج غزة، يتحرَّك المشهدُ على خطين متوازيين؛ الأول إنسانيٌّ، ولكنَّ العجرفة الإسرائيلية تسدُّ الطرق في وجهه، وتتعمّد التجويع وسيلةً لإبادة الفلسطينيين.

تظنُّ إسرائيلُ أنَّ هذا العملَ الوحشي اللاإنساني سيغير مسارَ الدّفاع عن الحقّ الفلسطيني، لكنَّه في الواقع يبدّل لغة النّقاش الدّولي من «الأزمة» إلى هذا السَّيل من اليقظة العالمية ومساندتِها للحقّ الفلسطيني ومهاجمته إسرائيل، وهذا واضحٌ حتى في الولايات المتحدة نفسها؛ إذ انتقلت النظرة الشعبية لإسرائيلَ إلى نظرة سلبية بنسبة 53 في المائة، وذلك وفق استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث، وهو تحوُّلٌ يمسك بطرف الخيط لفهم لغة السياسة في واشنطن، حتى الرئيس الأميركي دونالد ترمب نفسُه، وهو الأكثرُ دعماً لإسرائيل، يتحدَّثُ علناً عن خسارة إسرائيل لـ«عالم العلاقات العامَّة»، وعن معركة تربح فيهَا إسرائيلُ ميدانيّاً وتخسرُ فيهَا الرأي العامَّ الدوليَّ، والأميركي على وجهِ الخُصوص.

الخطُّ الثَّاني، وهو سياسي، وتقوده الدبلوماسية السعودية بوصفِها «قائدة التثبيت» للحقّ الفلسطيني؛ حيث ترأستِ الرياض بالشَّراكة مع باريس في يوليو (تموز) الماضي، مؤتمراً رفيعَ المستوى لتفعيل حلّ الدولتين في نيويورك. والسعودية هنا تتقدّم بصيغة تجمعُ الشَّرعية الدَّولية إلى واقعية سياسية تحوّل التعاطف إلى أدواتِ ضغطٍ وزمنٍ وجداولِ تنفيذ، وما يُبنى في هذا السياق، شبكةُ مرجعياتٍ واعترافاتٍ دوليّة تصبُّ كلُّها في كفّة فلسطين.

والقراءة المتوقعة للأسبوع الأممي المنعقد نهاية سبتمبر (أيلول) الحالي، تشير إلى مسارين متوازيين أيضاً، وهما مسار اعتراف يتوسّع دولياً ليشمل عواصم مؤثرة مثل (باريس ولندن وكانبيرا وأوتاوا بنسب مختلفة من الحسم والاشتراطات)، ومسار إنساني يحملُ توصيفات أشد صرامة، وفي كلتا الحالتين، تتقدم «سردية الصورة» على «بلاغة الخطاب»؛ فصورة الطفلِ الفلسطيني الهزيلِ تسبقُ النُّصوص، وتعيدُ ضبطَ النقاش علَى سؤالِ البقاءِ والإنسانية، لا على خرائطِ السّياسة وحدَها.

ما يتشكَّل إذن، هو مشهدٌ لتصفية سياسيَّة تقابله موجة تثبيتٍ للحقّ الفلسطيني في المحافلِ الدولية، وبينهمَا تمتدُّ هوامشُ توقعاتٍ معقولة تزيدُ تكلفة الصُّورة على إسرائيل في دوائرِ الرأي الغربية، فهنالكَ تقدّمٌ مهمٌّ في عِدادِ الدّول المعترفة أو التي تريدُ الاعتراف بالدَّولة الفلسطينية، وتباطؤٌ إنساني وميداني في غزة يرفعُ منسوبَ حضورِ الملفّ الإغاثي في عواصمِ القرار.

ضمن هذه الخلاصة، تبقى عبارة عباس «تدمير فلسطين بالكامل» مفتاح قراءة ليس لأن الكارثة قائمة فحسب، بل لأن السياسة الدولية تميل للمرة الأولى منذ سنوات طويلة إلى تدوين هذا الوعي في سجلات الاعتراف والتمثيل، وعند هذه النقطة بالذات، يصبح سؤال «مآل القضية» أقل ارتباطاً بإرادة طرف واحد، وأكثر التصاقاً بحركة دولية تتكون على نحو متدرج في نيويورك وأوروبا، بينما تبقى غزة، بصُوَرها القاسية، طرف الخيط الذي يعيد ترتيب الرواية من جديد، وهنا يبرز السؤال: هل وصلت صورة الطفل الفلسطيني الهزيل الجائع في غزة إلى مستوى صورة محرقة الهولوكوست في الذاكرة الأخلاقية للغرب والعالم؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد