سارا القرني
العزلة الداخلية ليست مجرد لحظة هدوء، بل هي انسحاب تدريجي من الضجيج الذي لا يُحتمل، من المشاعر التي لم تجد مخرجًا، ومن العالم الذي لم يُصغِ.
إنها لحظة يلوذ فيها الإنسان إلى ذاته، لا ليهرب، بل لينجو.
قد ترى الشخص يضحك، يتحدث، يعمل، ويبدو على ما يرام، لكن داخله ساحة من الصمت، موحشة، مليئة بأسئلة بلا أجوبة، ونداءات لا يسمعها أحد.
هذه العزلة لا تبدأ فجأة، بل تتسلل شيئًا فشيئًا، كالماء حين يتسرّب من شقوق الروح.
قد تكون بدايتها تجربة خذلان واحدة، أو موقف لم يُفهم فيه شعورك، أو كلمة قاسية من شخص ظننته مأمنك.
وقد تكون نتيجة تراكمات طويلة: بيئة لا تحتضن، أصدقاء لا ينصتون، عائلة تتجاهل، أو مجتمع يطالبك بأن تكون بخير دائمًا، حتى وأنت تنكسر.
أحيانًا، تكون العزلة خيارًا واعيًا؛ هدوءًا تبحث فيه عن ذاتك وسط ضوضاء لا تنتهي.
لكن الخطير حين تتحوّل إلى ردّ فعل لاشعوري على كل محاولة اقتراب، حين تصبح أسلوب حياة، لا لأنك ارتحت لها، بل لأنك لم تعد تملك شجاعة التواجد الكامل.
وتأتي المشاعر السلبية لتزيد الطين بلة:
القلق، الشعور بالدونية، الإحساس بأن وجودك غير مرئي أو غير مرغوب، أو حتى الذنب الذي لا تدري مصدره، كلها تُغذي هذه العزلة وتُعمّقها.
ثم هناك المحيط.. أصدقاء يجعلونك تشكّ في نفسك، أو يستهزئون بما تشعر، أو يتعاملون مع ألمك باستخفاف.
وهناك التنمّر الخفي، ذلك الذي لا يُقال، بل يُفهم من نظرات، من تهميش، من مقارنات مستمرة تُشعرك بأنك أقلّ، بأنك لا تنتمي.
فتنسحب.. لا لأنك لا تريد الناس، بل لأنك سئمت من الشعور بأنك دائمًا الطرف الذي لا يُفهم، ولا يُحتفى به، ولا يُختار.
في داخل العزلة، يولد صوتك الحقيقي.
صوت لا يسمعه أحد، لكنه يرافقك ليلًا، يطرح أسئلة لم تجد لها إجابة:
«هل أنا كافٍ؟ هل يراني أحد؟ هل إذا غبت، سيفتقدني أحد؟»
ورغم كل الألم، فإن العزلة أحيانًا تكون رحمًا ثانيًا..
مساحة تتكون فيها من جديد، تعيد فيها تعريف ذاتك، تعالج فيها ما تم كسره، وتعيد ترتيب أولوياتك بعيدًا عن ضجيج التوقعات.
لكن لا يجب أن تطول. فالعزلة حين تصبح وطنًا دائمًا، تسرق منك الحياة.
هي لحظة ضرورية للترميم، لا للسكن.
فما من أحد خُلق ليبقى في الظل، ولو كانت روحه أنيقة.
نحتاج جميعًا إلى من يطرق باب عزلاتنا بلطف، لا اقتحامًا، إلى من يقول: «أنا هنا، لا أطلب شرحًا، فقط أريد أن أبقى.»
لأن في بعض الأحيان، الخلاص من العزلة لا يكون في الكلام، بل في الحضور الحقيقي.. في وجود يشعرنا أننا لا نحمل أنفسنا وحدنا.
وفي النهاية، العزلة الداخلية ليست ضعفًا، بل صرخة هادئة من روح أرهقتها الحياة، تبحث فقط عن حضن آمن، أو على الأقل، عن لحظة يُقال لها فيها: «أنا أفهمك.. دون أن تشرح.»