علي محمد الحازمي
غالباً ما يُوصف الاقتصاد بأنه علم الأرقام متمحور في الناتج المحلي الإجمالي، والتضخم، والعجز المالي، ومعدلات الإنتاجية. تهيمن الرسوم البيانية والإحصاءات على عناوين الأخبار، كما لو أن الرخاء يمكن اختصاره إلى أرقام في صفحة. لكن هذه النظرة ناقصة. ففي جوهره، يتمحور الاقتصاد حول الإنسان، عمله، وخياراته، ومعاناته، وتطلعاته. لا تُهم الأرقام إلا بما تعكسه من حياة إنسانية. في المجمل يجب دائمًا الحكم على الاقتصاد من خلال نتائجه الإنسانية، وليس من خلال ميزانياته العمومية وحدها. كل سياسة، وكل إحصائية، وكل اتجاه في السوق لا يهم إلا بما يمس حياة الناس. إن نسيان ذلك هو خلط بين الخريطة والإقليم. الاقتصاد، يجب أن يبقى، تخصص يهتم بالناس وبكيفية بناء مجتمعات يزدهر فيها الأفراد والأسر.
يخفي كل مؤشر اقتصادي قصة إنسانية. قد تبدو إحصائية واحدة مثل 10% بطالة مجردة، لكنها تعني آلاف العائلات القلقة بشأن الإيجار، والخريجين الشباب الذين ينتظرون فرصتهم الأولى، أو الآباء الذين يؤجلون أحلامهم في تعليم أفضل لأبنائهم. والعكس صحيح، حين ترتفع الأجور أو ينخفض التضخم، فإن الأثر يتجاوز الحسابات الاقتصادية ليصل إلى حياة الأسر التي تتمكن من توفير غذاء صحي، أو مسكن آمن، أو فرصة للاستمتاع والترفيه.
لذا، فإن الاقتصاد ليس مجرد ممارسة محاسبية، بل هو منظور لفهم كيف تُشكّل السياسات والأسواق الحياة اليومية. عندما تُعدّ الحكومات الميزانيات، أو عندما ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة، فإن هذه ليست مجرد مناورات تقنية؛ بل إنها تمتد عبر المجتمعات، مُشكّلةً قدرة الأسرة على شراء منزل، أو قدرة الشركات الصغيرة على البقاء، أو قدرة المتقاعد على العيش بكرامة.
إن النظر إلى الاقتصاد على أنه سعيٌّ وراء الثروة المادية فقط هو أمرٌ ضيق الأفق. فالرخاء الحقيقي لا يكمن في ارتفاع الدخل فحسب، بل في زيادة الفرص والإنصاف. لا يكون الاقتصاد سليماً فقط عندما ينمو، بل عندما يُوسّع نطاق الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية والعمل الهادف. يتعلق الأمر بتزويد الناس بالأدوات اللازمة لبناء حياة كريمة وآمنة.
يُعدّ عدم المساواة بُعداً إنسانياً آخر للاقتصاد. قد يرتفع الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما ارتفاعاً هائلاً، ولكن إذا اقتصرت المكاسب على فئة قليلة، فقد تشعر الأغلبية بالاستبعاد من مسيرة التقدّم. يعتمد التماسك الاجتماعي، والثقة بالمؤسسات، وحتى الاستقرار السياسي، على مدى عدالة توزيع الفرص والمكافآت. لذا، فإن الاقتصاد الشامل ليس مُفضّلاً أخلاقيّاً فحسب؛ بل هو ضروري عمليّاً لتحقيق التنمية المستدامة.
لا يقتصر الاقتصاد على الكفاءة في حد ذاتها، بل يهدف إلى تمكين الناس من عيش حياة أكثر اكتمالاً وحرية. إن المقياس الحقيقي لنجاح الاقتصاد ليس حجم إنتاجه، بل جودة الحياة التي يوفرها وذلك من خلال الأمان في الشيخوخة، والأمل للشباب، والكرامة في العمل، والعدالة في الفرص.