: آخر تحديث

التَّاريخ كررَ نفسَه.. الميليشيا والدولة

5
4
5

كان وما يزال تعدد الجيوش أحد أبرز عوامل خرابِ الدُّول، وهذا ما يُعرف بالحشود الموازية، ومِن الأكاذيب أنَّ كلّ حشدٍ يدعي أنه ظهير الدَّولة وحامي الشَّعب، فمِن العادة، قديماً وحديثاً، أنَّ أيَّ عسكريَّة موازية لجيش الدَّولة يكون ولاؤها خارجيّاً، وبهذه المعادلة تحولت دولٌ إلى أشباه دول. وصلت الجرأة بأحد قادة الميليشيات يطلب مِن جيش الدّولة إلغاء نفسه لصالح حشده، لأنه «مليءٌ بالخونة، والجيش البديل هو جيشه جيش الإسلام».

لنا في التّاريخ الوسيط نموذجٌ، فبعد تكاثر أمراء الحرب، داخل الدّولة العباسيَّة: الطَّاهريون، والصّفاريون، والسَّامانيون، والبويهيون، والغزنويون وآخرهم السِّلجوقيون، لم يبق لبغداد غير الخِطبَة، وكلُّ هؤلاء بحاجة لختم الخليفة، لإضفاء الشَّرعيَّة الدِّينيَّة فقط. بما أنَّ الشَّرق كان تقاسمَ نفوذٍ بين الفاطميين بمصر والعباسيين بالعِراق، صارت الميليشيات تتجاوز الحدود، وخصوصاً بعد الهيمنة البويهيَّة، التي لعبت باستغلال واقعة كربلاء، فأعلنوا عاشوراء رسميَّاً(352هج)، ورسموا عيد «الغدير»، وكتبوا على النُّقود ورفعوا الشّعارات الطَّائفيَّة، فانقسمت بغداد، وحمى النّزاع، مواكب تعلن «الغدير» وأخرى «عيد الغار»(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).

تجاوز قائد الميليشيا بهاء الدّولة فيروز بن فناخسرو عضد الدَّولة، على الخليفة الطَّائع بالله(خُلع 381هج) لضعفه، عندما سحبه، أمام الوجهاء، وبينهم الشّريف الرّضي(ت: 406 هج) فقال ما مطلعه، وهو يشاهد الخليفة مطروحاً على الأرض، وكان صديقاً له: «هيهات أغترُ بالسَّلطان ثانيةً/قد ضلَّ ولاج أبوابِ السَّلاطين»(مسكويه، تجارب الأُمم). يُعيد التّاريخ المأساة، يقف قائدٌ في الجيش الموازي، ويخاطب المسؤول التَّنفيذي الأول: «نقطع أذنك»! ويضعون صورته تحت أقدامهم، وهم والمسؤول مِن مذهب واحد، مع اختلاف الولاء العقائديّ، بين الوطن والخارج، فإذا برر الطَّائفيون اختلاف الخليفة وقائد الميليشيا فيروز بالمذهب! ويعتبرون الاعتداء على الخليفة لنصرة المذهب، فبماذا يبررون اعتداء اليوم؟ ولكم تخيُل الكارثة.

لكنَّ الأخطر أنَّ أبا المنيع قرواش(ت: 441 هج) نائب البويهيين على: الموصل والأنبار والكوفة، ألغى الخِطبَة للخليفة ببغداد(401 هج)، وأقامها للحاكم بأمر الله الفاطمي(ت: 411 هج)، ولحزم القادر بالله(حكم 381-422 هج) فشل المشروع. فقد أرسل الخليفة إلى فيروز أنّ يكف صاحبه قرواش ويُعيد الولايات لبغداد، فبعد إعلان شرعية الحاكم الفاطميّ على تلك المناطق، تركها العلويون والعباسيون إلى بغداد.

لم يستطع فيروز الامتناع، لقوة القادر بالله، فكلف عميد الجيوش بالمسير إلى قرواش، فقدم الأخير اعتذاره، وعادت الخِطبَة لبغداد، فقبلها البويهيون على مضض(ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ). كان التّجاوز وراء إصدار محضر قدح بأصول الفاطميين العلويَّة، وأمضاه وجهاء بغداد كافة، مِن الشّيعة والسُّنة، «كتب خطه في المحضر خلق كثير من العلويين: المرتضى، والرَّضى، وابن الأزرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطَّيب، ومحمَّد بن محمد بن عمر (الشّيخ المفيد)، وابن أبي يعلى، ومن القضاة: أبو محمد ابن الأكفاني، وأبو القاسم الخرزيّ... ومن الشُّهداء(الشُّهود): أبو القاسم التَّنوخي»(سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزَّمان). انظروا في أسماء الموقعين وهوياتهم المذهبيَّة، مِن الرَّضي والمرتضى إلى المفيد كانوا مع بغداد، بغض النَّظر عمَّن يحكمها، سواء كان بويهياً أو فاطمياً. دفع تصرف فيروز وقرواش، والمظاهر الطّائفيَّة العنيفة، الخليفة القادر على اتِّخاذ اجراءات مضادة، كانت بغداد في غنى عنها، حتَّى اضطر خليفته القائم بأمر الله(حكم: 422- 467هج) إلى الاستنجاد بالسّلاجقة الأتراك، ودخلوا بغداد (447 هج) فانهوا النفوذ الفارسيّ(سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزَّمان)، ليبدأ النُّفوذ التّركي.

هكذا تتحول العواصم إلى ساحات للتغالب بين أمراء السّلاح، هذا في ماضي الزَّمان، يوم لم يطلب النَّاس غير الكفاف، فكيف اليوم وهم بحاجة إلى أنظمة مِن التَّعليم والطِّب والعُمران، بينما الحشود لا تجيد غير الخراب، بأمر للخارج وتكليفه. هذا، ونُذَكّر بالجَواهريّ(ت: 1997): «مستأجرين يخرِّبون ديارَهُم/ ويكافأون على الخرابِ رواتبا»(الوتريّ 1949). أقولُ: التّاريخ كرر نفسه، الميليشيا والدَّولة، باِتِّفاق النَّوايا البلايا.

*كاتب عراقي 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد