عبدالعزيز الكندري
في عام 194 هـجري، جمعت زُبيدة ( زوجة هارون الرشيد) المهندسين وقالت لهم: إن الحُجّاج يخرجون من بغداد إلى مكة وبعضهم يموت في الطريق بسبب عدم وجود المياه، وقالت للمندسين لا أريد حاجاً يموت في الطريق بسبب قلة المياه، وخلال اثنتي عشرة سنة يقولون لها ليس هناك حل؛ وهي تقول هناك حل، وبعد هذا الإصرار جاءت فكرة مسح الأرض والبحث عن المياه، فقالت لنبدأ من مكة، وهي التي موّلت هذا الوقف من مالها الخاص. وعندما قيل لزبيدة إن مشروع عين الماء مكلّف للغاية، أجابت: «اعمل ولو كلّفتك ضربة الفأس ديناراً»، مؤكدة على أهمية المشروع بالنسبة لها في توفير المياه للحجاج، وهو موجود إلى يومنا هذا.
وتقع عينُ زبيدة في وادي نعمان، على الطريق بين الطائف ومكة، وتمتد معالمها وقنواتها إلى منطقة المشاعر المقدسة منى وعرفات ومزدلفة، وهناك فرق بين درب زبيدة وعين زبيدة، فالدرب عبارة عن بِرك تنتشر في مواضع معيّنة، وتمتد من بلاد العراق إلى مكة المكرمة، ويتم فيها تجميع مياه الأمطار ليستفيد منها الحجاج والمسافرون، أما العينُ فهي القناة التي شقت من وادي نعمان شرق مكة إلى منطقة المشاعر.
ويتجاوز طول مسارات عين زبيدة التاريخية في محيط المناسك بمكة 30 كلم، وتتضمن العديد من الخزانات، ويبلغ عددها 132، وتلتف قناة عين زبيدة بسفح جبل الرحمة من جهاته الثلاث، وقد هُيئ لها حنفيات حجرية جميلة كي يشرب منها الحجاج بيسر وسهولة، وأُقيمت تحتها مجار تتجمع فيها مياه الوضوء ثم تسيل إلى المزارع المجاورة التي كانت في ذلك الوقت.
وظلت عين زبيدة تمد أهل مكة وحجّاجها بالمياه العذبة مدة ألف ومئتي عام حوفظ عليها عبر العصور، وخضعت للعديد من العمارة والإصلاح، ولا تزال آثارها باقية في أنحاء متفرقة عند جبل الرحمة وبين عرفات ومزدلفة وعلى أطراف جبل منى بالعزيزية.
واعتمد هذا المشروع -الذي استغرق بناؤه 10 سنوات- على تصاميم هندسية فريدة لسحب المياه مسافات طويلة وعبر مرتفعات ومنخفضات جبلية وأودية وصحارى، حتى وصلت إلى المسجد الحرام بمكة المكرمة، مروراً بمناطق المشاعر المقدسة منى وعرفات ومزدلفة.
ولا تزال آثار القنوات المائية قائمة في سفوح الجبال، حيث حرص منفذو المشروع على وضع فتحات لقنوات فرعية في المواضع التي يكون من المتوقع تجمع مياه السيول فيها، لتكون هذه القنوات مصدراً من مصادر تجميع المياه عبر القناة الرئيسية.
كما أمرت زبيدة أيضاً بعدد من الأوقاف الإسلامية في مكة المكرمة، من أجل ضمان استمرارية عطائها في سقي الحجاج والمعتمرين بعد وفاتها، وهذه الأوقاف لا تزال موجودة، وبلغ عدد عقارات أوقاف عين زبيدة 35 عقاراً في مكة المكرمة، و20 عقاراً في الطائف.
وعين زبيدة، هي مشروع من أعظم المشاريع الخيرية في تاريخنا، وهو يوازي المشاريع الكبيرة الخالدة في هذا العصر، وهو مشروع لامرأة مسلمة، شعرت باحتياج الناس وقامت بهذا المشروع الذي هو موجود إلى يومنا هذا بعد أكثر من 1200 عام، وهي تستحق وضع المجاهر الفاحصة والكاشفة عليه لبناتنا اليوم ليشاهدن القدوات الحقيقيات بدل بعض المشاهير الذين اشتهروا بصناعة التفاهة.
نحن لا نتحدث ضد المرأة، ولكن يجب أن نتصدى للرسائل الإعلامية غير السوية والتي ترى أنّ الأمومة عبء والبيت قيد مع كل أسف، والدعوة للاستقلالية والمساواة بين الرجل والمرأة وهذا خطأ كبير، وهذا الدور تشترك فيه الأسرة والمدرسة والإعلام ومشاهير «السوشال ميديا» لإخراج وإبراز مثل هذه القدوات لبناتنا والحديث عنها في اللقاءات والمحافل... لأن الهجمة على المرأة والطفل كبيرة، ويجب أن نتصدى لها بوسائل عصرية حديثة حتى لا نتحسّر في قادم الأيام لا قدّر الله.

