لا تُقاس قيمة الصحافة بقدرتها على نقل الأخبار، وتحليل الأحداث اليوميَّة فحسب، بل بكونها مرآةً توثِّق ملامح المجتمع في لحظاته المختلفة، وتجسِّد وعيه الجمعي وتحوُّلاته عبر الزمن. ومن هذا المنطلق، فإنَّ الصحف المحليَّة ليست مجرَّد مطبوعات ورقيَّة صدرت في مرحلة معيَّنة، بل هي ذاكرة وطنيَّة ينبغي صون محتواها وحمايته من التلاشي والضياع.
الساحة الإعلاميَّة في المملكة شهدت عبر عقود طويلة مضت، تألُّق صحف بارزة، كان لها دور محوري في تشكيل الرأي العام، ورصد التحوُّلات الاجتماعيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة وحتى الرياضيَّة. لكن بعض هذه الصحف توقَّفت عن الصدور، وأُغلقت نهائيًّا، لتطوى معها صفحات غنيَّة من مقالات وتحقيقات وصور وحوارات، كانت تشكِّل معالم حقبة كاملة. ومن أبرز تلك الصحف: الندوة، الشرق، والحياة، والتي لم يمثِّل غيابها واختفاء أرشيفها مجرَّد خسارة إعلاميَّة، بل خسارة معرفيَّة وثقافيَّة وتاريخيَّة.
وقد دفعتني هذه المشكلة إلى التنبيه عليها في تغريدة نشرتها مطلع عام 2021، طالبتُ فيها بضرورة تدخُّل الجهات المختصَّة لإنقاذ تلك الكنوز من الضياع. وجاءت الاستجابة سريعةً ومشكورةً من دارة الملك عبدالعزيز؛ التي أبدت استعدادها لاسترجاع وحفظ أرشيف هذه الصحف، شرط موافقة المؤسسات المالكة لها، غير أنَّ خمس سنوات مضت تقريبًا دون أنْ يرى هذا المشروع النور.
من أجل ذلك تبرز الحاجة الملحَّة لتأسيس أرشيف وطني رقمي، يضم كافة الصحف السعودية منذ نشأتها وحتى اليوم، ليكون متاحًا للباحثين والمؤرِّخين والمهتمِّين، وليتحوَّل إلى مصدرٍ ثريٍّ للأجيال القادمة. فوجود مثل هذا الأرشيف ليس ترفًا ثقافيًّا، بل هو ضرورة وطنيَّة لحماية الذاكرة الجمعيَّة من النسيان.
وتقدم التجارب الدوليَّة نماذج ملهمة يمكن الاستفادة منها، فالكويت على سبيل المثال بادرت إلى إطلاق موقع رقمي يجمع أرشيف صحفها، يحمل اسم الأرشيف الوطني للصحف الكويتيَّة (ذاكرة الكويت)، ما أتاح للباحثين والإعلاميين الاطِّلاع على محتوى عقود سابقة بيُسر وسهولة. وعلى نطاق أوسع، تمثِّل مكتبة الكونجرس الأمريكيَّة مرجعًا عالميًّا في أرشفة الصحافة، إذ تحتفظ بآلاف النسخ الورقيَّة والرقميَّة، وتتيحها للباحثين ضمن منظومة متكاملة للحفظ والاسترجاع.
إن تأسيس أرشيف وطني للصحافة السعودية، لن يحفظ تاريخ الكلمة المكتوبة وحسب، بل سيوفر منصة معرفية تعزز الدراسات الأكاديمية، وتعمق فهم مسيرة المجتمع السعودي وتطوره. وربما آن الأوان لأن نتعامل مع الصحافة بوصفها تراثًا غير ماديٍّ يستحق الحفظ والرعاية، تمامًا كما نحرص على صون آثارنا ومخطوطاتنا.
فكما تبقى معالمنا العمرانيَّة شاهدةً على مسيرة الوطن، يجب أنْ تبقى مقالات الرأي، والتحقيقات، والصور شاهدًا رقميًّا حيًّا على الذاكرة الوطنيَّة، لا أنْ تختفي مع كلِّ قرار فرديٍّ بإغلاق لصحيفة، أو إيقاف لمطبعة.
أرشيف الصحافة.. ذاكرة وطنية لا تحتمل الضياع
مواضيع ذات صلة