: آخر تحديث

«عرفتك وإحنا لسه صغار»!

3
3
3

نجيب يماني

عرفتك وإحنا لسه صغار

ولسه في ذمة الأقدار

وفي الحارة مع الجيران

كبرنا وانتي برضو كمان

ولمن أمي ترسلني لامك أجري واستني وانتي تفرحي بيه عيونك هايمة في عينيه وبعد الجري يا فرحة لبستي القنعة والطرحة ومن طاقة مبيت أمي اغني وانتي بتغني

وقالوا الواد عريس ولهان وانتي ست بيت تنصان وصرتي دنيتي وحبي وقلتي إنت نور قلبي...

ليست كل الأغاني مجرّد مقاطع لحنية تمضي مع الزمن، بعضها يرسخ في الوجدان كأنه مفتاح سري لذاكرة القلب، إنها شريحة العُمر وتاريخ الأيام.

ولعل أغنية المرحوم طلال مداح «عرفتك وإحنا لسه صغار» واحدة من أكثر النصوص صدقاً ودفئاً، لأنّها لا تكتفي بترديد قصة حب، بل تسجّل حكاية الوجود الإنساني منذ لحظة الطفولة حتى اكتمال العمر.

تتكشف أمامنا لوحة عاطفية، بريئة، نقية، تذكرنا بأن الحب ليس صناعة متأخرة، بل هو ميل فطري يتخلق مع الإنسان منذ معرفته بمعنى النظرة الأولى.

هنا الحب ليس اندفاعاً عابراً، بل بذرة زرعتها الحياة في أرض الطفولة، ورعتها الأيام لتتحوّل إلى شجرة ظليلة تظلل دروب العمر.

الحارة التي تصفها الكلمات ليست مجرّد مكان، بل هي رمز لبراءة الاجتماع الإنساني، حيث تلتقي البيوت على المودة، وتتكئ على كتوف بعضها البعض وتتشابك الأرواح كما تتشابك الأيدي في اللعب.

هناك، في الأزقة الترابية، في الحواري الضيّقة يولد الحب الصامت الذي تتحدث فيه العيون ولا تبوح به الشفاه أشياء صغيرة، كانت بمثابة وسائل تواصل اجتماعية.

نافذة مواربة خلفها عيون عاشقة، باب مردود يخفى لهفة وشوق، جدار سطوح تعبر خلاله النظرات وحرقة الأشواق، مرسول لبيت الجيران تسلم عليكم أمي وتقول تحتاج حزمة بقدونس وفص ثوم لتتلاقى العيون وتتلامس الأيادي وتخفق القلوب بفرحة.

وفي الحارة مع الجيران كنا نمارس ألعاب الطفولة البريئة على تراب الحارة نلعب البربر والسقيطة واستوت المقادم وعريس وعروسة وعسة وحرامي.

بنية اجتماعية للحب، حيث يصبح الفعل اليومي البسيط نواة لعاطفة أبدية.

إن الانتقال في الأغنية من الطفولة إلى الشباب، ومن اللعب إلى الالتزام، ومن النظرات إلى الوعود، يمنح النص حبكته الدرامية العميقة.

فالقصة لا تبقى أسيرة الحنين، بل تسير مع الزمن، تُكبر المشاعر كما تكبر الأجساد فتكون القُنعة والطرحة من نصيب الحبيبة، كعادة اجتماعية حتى تصل إلى لحظة التتويج بالزواج.

هنا ندرك أن النص ليس مجرد حنين إلى ماضٍ بريء، بل هو تجسيد لدورة الحياة التي تبتدئ بالدهشة وتنتهي بالسكينة.

«وقالوا الواد عريس ولهان وانتي ست بيت تنصان»

ليست مجرد جملة غنائية، إنها إعلان انتصار الحب الطبيعي، ذلك الحب الذي بدأ في الحارة بين نظرات البراءة ولعب الطفولة وتُوّج في بيت الزوجية.

صياغة فنية لمعنى قرآني عظيم (وجعل بينكم مودة ورحمة)..

طلال مداح، بصوته المرهف، لم يكن يغني فقط، بل كان يفتح لنا أبواب الذاكرة. كلمات تشبه نسمة تأتي من زمن لم يعد موجوداً، زمن تُقاس فيه السعادة بنظرة صافية، وموعد بريء، ولحن يرافقه الدفء الإنساني. حين نسمع الأغنية اليوم، نرى أنفسنا في مرايا طفولتنا الضاحكة، أولى خطواتنا نحو الوعي، رعشة القلب الأولى التي لا ينساها العمر مهما تقادم..

إنها قصة كل واحد عاش أيام الحب الصافي والعشق المقدس.. أغنية تتجاوز كونها نصاً غنائياً إلى سجل أنثروبولوجي للحب في بساطته، لتكون درساً فلسفياً في أن أجمل العلاقات الإنسانية لا تحتاج إلى بهرجة ولا اصطناع، بل تنمو في تربة الصدق والعفوية، كلمات تعيدنا إلى جوهر الحب كغريزة إنسانية، وكنعمة إلهية تتسع مع العمر وتثمر حياة كاملة.

أغنية تمثل وثيقة وجدانية تحفظ لنا قيمة البساطة والبراءة في زمن يزدحم بالتعقيد.

تذكرنا بأن في داخل كل إنسان طفلاً صغيراً لا يزال يبحث عن تلك الطفولة الضاحكة، وعن عينين كان يلمح فيهما أول معنى للحب الصافي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد