: آخر تحديث

الهندسة الصينية في مواجهة المحاماة الأمريكية.. فمن سينتصر؟

2
1
2

عبدالرحمن الحبيب

تتنافس الولايات المتحدة والصين بحدة، لكن ماذا لو كان لكل طرف مميزات غير موجودة لدى الطرف الآخر، فهل يمكن تبني جزء من ثقافته، وهل يمكن للطرفين التعلم من بعضهما البعض؟ الصين أصبحت دولة هندسية مهووسة بالبناء تسعى بلا هوادة إلى مشاريع ضخمة مذهلة عبر تغيير سريع ومؤلم، بينما أمريكا تحولت إلى مجتمع محاماة مهووس بالتقاضي والإجراءات المعيقة التي تعرقل كل شيء خيراً كان أو شرا.

هذه فحوى كتاب جديد صدر الأسبوع الماضي لدان وانغ، الباحث الذي أمضى جزءًا كبيرًا من حياته بين الولايات المتحدة والصين، عنوانه «مُتسارع: سعي الصين لهندسة المستقبل»، (Breakneck: Chinas Quest to Engineer the Future) يناقش بأن أكبر اقتصادين في العالم بحاجة إلى مزيد من التقارب الثقافي بينهما، ويوضح أن فهم الصين سيساعدنا على رؤية أمريكا بوضوح أفضل.

الكتاب يمزج التحليل السياسي والاقتصادي والفلسفي بالتقارير الصحفية ليكشف عن إطار منهجي جديد واستنتاجات فريدة ومثيرة، حيث قام المؤلف برحلات بالدراجة يجوب المدن الصينية الكبرى مثل شنغهاي وتشونغتشينغ وشنتشن عبر بنيتها التحتية المبهرة في هندستها، والجسور الشاهقة والسكك الحديدية اللامعة والمصانع المترامية الأطراف التي حسَّنت النتائج الاقتصادية في وقتٍ قياسي، كما خلقت أيضًا شعورًا بالتفاؤل، إلا أنه يكشف عن سلبيات الهندسة الاجتماعية، بما في ذلك مراقبة الأقليات العرقية، والقمع السياسي، وصدمات سياسة الطفل الواحد وسياسة صفر كورونا. هذا الواقع ليس مفارقةً، بل هو سمة من سمات عقلية الهندسة الصينية، حسب المؤلف.

رغم الخصومة وعدم الثقة بينهما يكشف الكتاب عن أوجه تشابه مفاجئة بين الصين وأمريكا مثلما بينهما من اختلافات التي من شأنها أن تفيد كلا البلدين، فكل بلد يمكن أن يشير إلى مسار أفضل للآخر: سيكون المواطنون الصينيون في حال أفضل إذا استطاعت حكومتهم أن تتعلم تقدير الحريات الفردية، في حين سيكون الأميركيون في حال أفضل إذا استطاعت حكومتهم أن تتعلم احتضان الهندسة وإنتاج مخرجات أفضل للكثيرين، وليس فقط للقِلة.

يقول المؤلف: «ينطلق الكتاب من أفكار بسيطة، منها أن الأمريكيين والصينيين متشابهون جوهريًا: قلقون، يتوقون للاختصارات، ويقودون في نهاية المطاف معظم التغييرات الكبرى في العالم. وأن تنافسهم لا ينبغي أن يُبرَّر بمصطلحات بالية من القرن الماضي، مثل الاشتراكية والديمقراطية والنيوليبرالية. وأن كلا البلدين عبارة عن تشابكات من العيوب، يُقدّمان باستمرار - باسم المنافسة - انتقادات لاذعة تتجاوز أهوائهما.»

كما يوضح المؤلف أن «أبسط فكرة أطرحها هي أن الصين دولة هندسية، تُطبّق المطرقة الثقيلة على المشاكل المادية والاجتماعية، على عكس مجتمع المحاماة الأمريكي، الذي يجلب مطرقة لمنع كل شيء تقريبًا، سواء كان جيدًا أو سيئًا.»

يبدأ الكتاب برحلة بالدراجة قام بها المؤلف من قوييانغ إلى تشونغتشينغ عام 2021، وكان مسروراً باكتشاف أن رابع أفقر مقاطعة في الصين تتمتع ببنية تحتية أفضل بكثير من كاليفورنيا أو نيويورك رغم أنهما أغنى بكثير، لكنه يؤكد أن هناك ما هو أكثر من مجرد جسور شاهقة في هندسة الدولة، فالصين لا تستطيع الاكتفاء بالهندسة المادية، فعاجلًا أو آجلًا، تُعامل السكان كما لو كانوا مواد بناء أخرى تُشكّل وفق مقتضيات الظروف، حسب المؤلف.

أما في أمريكا فقد أصبحت فكرة «مجتمع المحامين» والهوس بالتقاضي واضحة للمؤلف عندما عاد إلى الولايات المتحدة عام 2023، حيث يقول: «كان مركز بول تساي الصيني أفضل مكان ممكن لكتابة هذا الكتاب، ليس فقط لأنه داعم للغاية، ولكن أيضًا لأنه وضعني داخل كلية الحقوق بجامعة ييل. تُمهّد كليات الحقوق النخبوية، حاليًا وفي الماضي، الطريق الأسهل للطموحين للوصول إلى أعلى مراتب الحكومة الأمريكية؛ وقد ساهمت هيمنة المحامين على النخبة الأمريكية في تحويل الولايات المتحدة إلى دولة فيتوقراطية مُتقاضية (حق النقض لعرقلة اتخاذ القرار). أعتقد أن أمريكا لا تستطيع أن تبقى قوة عظمى إذا التزمت بنظام ينفع غالباً الأثرياء وأصحاب النفوذ.»

«دولة الهندسة في مواجهة مجتمع المحامين» ليس نظرية شاملة لتفسير كل شيء عن الولايات المتحدة والصين، حسبما يقول المؤلف «بل إن الكتاب متجذر في تجاربي الشخصية في العيش في الصين بين عامي 2017 و2023، أقدم هذا الإطار لفهم الماضي القريب والتفكير فيما قد يأتي لاحقًا.»

يساعد هذا في تفسير عدد من الأمور حسب توضيح المؤلف الذي يطرح مثال الحرب التجارية والمواجهة التكنولوجية؛ فقد اعتمدت الولايات المتحدة على التمسك بالقواعد القانونية: فرض الرسوم الجمركية وتصميم نظام عقوبات أكثر تعقيدًا، بينما ركزت الصين على بناء المستقبل من خلال بناء سيارات أفضل ومدن أجمل ومحطات طاقة أكبر.

أخيراً يرى المؤلف أن دولة الهندسة الصينية: «على الرغم من أنها شيدت طرقًا وجسورًا في الخارج، إلا أنها تكافح لإلهام جاذبية ثقافية عالمية، لأن المهندسين ليسوا لبقين في الحديث ويميلون إلى حجب كل ما لا يفهمونه؛ أحيانًا تكون الدولة الصينية عقلانية للغاية، وتسير في مسار يبدو منطقيًا تمامًا، إلى أن تجد أكبر مدينة في البلاد نفسها فجأة في حالة إغلاق لعدة أشهر.»


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد