محمد الساعد
تفاجئ سوريا العالم كل يوم بسرعة تحركها السياسي وانفتاحها على مصالحها العظمى فقط، سوريا فهمت عزلتها وغرقها في وحل قضايا المنطقة بسبب النظام السابق وخياراته الغريبة.
فالنظام السابق وعلى مدى خمسة عقود ادعى دعم القضية الفلسطينية، وجعلها قضيته المركزية، وزايد عليها، بينما لم تكن سوى شماعة يضع عليها رداءه المبتل آخر الليل.
كان لا يؤمن بوجود فلسطين بالأساس، ومدعياً دعم العرب، وهو يتحالف إستراتيجياً مع كل الشعوبيين حول الإقليم العربي، كان يدّعي محاربة إسرائيل، لكنه فعل كل شيء إلا العداء لها، نعم قام ببعض الاشتباكات الصورية لبناء تكتيكات مصلحية مؤقتة، بل الكثير من المراقبين شككوا دائماً في الحروب التي خاضها النظام ضد تل أبيب، وهي وإن حصلت لكنها لا تتعدّى الحصول على مكاسب عند القوى العظمى، وترسيخ وجود النظام داخل المجتمعات العربية داخل سوريا وخارجها، خوفاً من لفظه ذات يوم، وهو ما حصل لاحقاً.
اللقاءات التي يتحدث عنها الإعلام- مؤخراً- بين وفود سورية وإسرائيلية، ليست الأولى، فقد شارك النظام السابق في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، كما انضم وفده المفاوض إلى الاجتماعات الثنائية المباشرة -بعد انتهاء المؤتمر العام- مع إسرائيل إضافة إلى الوفد الأردني الفلسطيني المشترك، وكذلك لبنان.
تلك لم تكن مداولات السلام الأولى بين العرب وإسرائيل، فقد سبقت مصر الجميع (1978) بعقد اتفاقية كامب ديفيد التي أسفرت عن مشروع سلام منفرد مع إسرائيل بعد خمس سنوات من حرب أكتوبر 73 التي شاركت فيها سوريا في محاولة منها لاسترداد الجولان.
مشكلة اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية، أن معظم من وقع يزايد على من لم يوقع، وهم لا يريدون أن ينضم غيرهم إلى أي اتفاقات سلام، ويدعون أن تجربتهم فاشلة في السلام مع إسرائيل، لكن أيّاً منهم لم يُلغِ تلك الاتفاقيات، دافعين الآخرين لرفض السلام ويطالبون الجميع بدفع الفواتير بدلاً عنهم.
السوريون اليوم يرون أن بعض مكوّناتهم العرقية والدينية تكاد تتفلت من بين يدي الدولة المركزية، وربما تنسلخ منها تماماً باتجاه علاقة مع إسرائيل.
لكن أحداً من المزايدين العرب لا ينصح الدروز على اندفاعهم، بل يهاجمون الدولة السورية ويتهمونها بكل شيء، مع أن العلاقة التفاوضية بين دمشق وتل أبيب، علاقة ند لند، وليست علاقة أفراد من طائفة تبدّل ملفاتها وهوياتها وحتى انتماءها العربي عمالة لإسرائيل.
نحن أمام حالة من اختيار المصالح العظمى يؤسسها السوريون، وكأنهم يقولون لكل المزايدين وحتى المراقبين: «سوريا أولاً، ومصالحها الوطنية اليوم أهم من الجميع»، وهو مبدأ تأسس منذ عقود لكن أحداً لم يجرؤ على الإفصاح عنه.
سوريا اليوم تكاد تلغي بتصرفاتها السياسية الواقعية هامش المزايدة الذي كان منتشراً بكثافة في العالم العربي منذ ولادة القضية الفلسطينية 1948، حتى السابع من أكتوبر الذي يعد مفصلاً تاريخياً له ما قبله، وله أيضا ما بعده.
مزايدة استعان بها الكثير في خصوماتهم ضد دول تعاملت بواقعية مع قضية الشعب الفلسطيني، ولأجلها ارتفعت بندقية لا تطلق الرصاص إلا على أبنائها أو الدول العربية الأخرى، واحتلت تحت اسمها الكويت، ولبنان، ووُجّه إعلام الشتائم إلى الدول العربية وشعوبها تحت مُسمّى نصرة فلسطين، حتى الدول التي بذلت كل جهودها السياسية وأموالها لدعم القضية الفلسطينية، لم تسلم من المزايدات والاتهامات، وعند أول منعطف حقيقي انقلبت عليها دول الطوق ودول الضد الماهرة جداً في المزايدات.
دمشق في موقف إستراتيجي صلب، فلبنان الذي كان خاصرة رخوة لطالما خشي منها النظام السابق لم يعد موجوداً كدولة مهددة، والقوى الفلسطينية التي شاركت في قتل السوريين- خلال الثورة- هي من قوّض القضية باندفاع السابع من أكتوبر، ولعل الجميع يتذكر أن الفلسطينيين كانوا ثاني من وقّع مع إسرائيل في اتفاقيات أوسلو، وتتالت بعض الدول العربية في طريق العلاقة مع الإسرائيليين؛ ولذلك ترى دمشق أنها ليست استثناءً من طريق السلام الذي بدأ العام 1978 ولم يتخلَّ عنه أحد ممن سلكه حتى الآن.