ما ان بدأت عجلة القضاء على الفساد الذي استشرى في شرايين العمل الخيري، لنصف قرن، جُمعت خلاله مليارات الدولارات، التي لا يعلم أحد أين ذهبت، بالدوران، حتى أطلقت بعض الجمعيات الدينية العنان للمنتمين لها لمهاجمة القرار، ساردة أمورا بعيدة عن الحقيقة، عدا صحة أن القرار آلمهم واعتصر قلوبهم، لأن «الطير في الفخ» كان بالفعل كبيرا، وخسارتهم له، بحكم كارثة! تحركوا وقاموا بتسجيل الاحتجاجات على الموقف الحكومي، بعد وقف العمل بمختلف روابط التبرعات في البنوك، مع وقف التحويلات المالية للخارج، وإغلاق مقارها في المناطق السكنية، وقال أحدهم ان وراء القرار ثلاثة، ووصفوهم بصفات غير ممكن سردها هنا لانها تعد اتهامات واضحة مخالفة للقانون. لا أعرف من يقصدون، فالقرارات أعلاه صدرت من حكومة الدولة، وهذه الاتهامات تتضمن إساءة واضحة لها، وقد يسألونه عنها!
ما لا يعلمه الكثيرون أن هذه القرارات ليست فقط مستحقة، بل تأخر صدورها لعقود، حصل خلالها إثراء غير مشروع. وأقولها بكل اطمئنان، انني مؤيد لكل ما اتخذ من إجراءات، بالرغم من أنني مؤسس ورئيس جمعية خيرية، ولو كانت جمعيتنا، أو من يعتمدون على مساعداتنا، من المتضررين، لكنت أول الشاكين.
لقد كتبت أكثر من مئة مقال، على مدى ثلاثين عاما، عن عدم صحة ما يجري في بعض الجمعيات الخيرية، أُحلت بسبب بعضها للقضاء، فقط لأنني طالبت بتشديد الرقابة عليها، وإجبارها على نشر ميزانياتها، ومراقبة أين تذهب أموالها في الخارج. وطَعنتُ في صحة استمرار «تمتع» بعض القائمين على واحدة من أكبرها، وأكثرها انتشارًا، بحق التصرف بمئات الملايين، من دون رقابة، على مدى 45 عاما، بعد أن عينوا وكيل الوزارة المنوط بها الرقابة عليهم، عضوا في مجلس إدارة الجمعية! ومع هذا لم يبادروا بأخذ المبادرة وتعديل وضعهم غير القانوني، بل لجأوا ايضا للقضاء، الذي برأ ساحتي.
كما كتبت كثيرا مشككا بالغياب التام للرقابة على صحة تكاليف المشاريع الخارجية التي تدعي أغلب الجمعيات القيام بها، إن وجدت أصلا. فكيف تقوم جمعية محددة بتكرار جمع مليون دينار، لشراء إبرة لطفل مريض، من دون الاكتراث بذكر اسم الدواء والشركة المنتجة وصورة عن عرض الشراء، واسم وتوصية الطبيب في إعلاناتها على وسائل التواصل، متجاهلين أن المبلغ مليون دينار، وليس مبلغا لشراء كيس بصل؟
لقد كتبت طوال 30 عاما مئات المقالات، منتقدا مئات التصرفات لعشرات الجمعيات الخيرية، ولم يقم المئات من مسؤوليها، الذين طالتهم اتهاماتي مباشرة، بكتابة رد واحد، أو القيام باتصال هاتفي ليبينوا أين أخطأت، والسبب كان غالبا، في عدم رغبتهم في إثارة الموضوع، و«تنبيه اللوه»، لتستمر عملية شفط التبرعات.
لا تكفي صفحات الجريدة لنشر قصص الفساد، ولكن عدد الجمعيات الهائل، بحد ذاته، وتعدد فروعها، وتشابه أهدافها كان مثيرا للريبة دائما، والسبب «العمولة»! فقد طلبت الحكومة، خلال رمضان، من الجمعيات المشاركة في جمع أكبر مبلغ لدفع ديون «الغارمين»، فكانت الحصيلة متواضعة جدا، علما بأن نفس الجمعيات «نجحت» في الفترة ذاتها، في جمع أضعاف ذلك المبلغ، لمشاريعها في 75 دولة لحفر آبار وشراء دواشق (فرشة اسفنج). وسبب ضعف الحملة الأولى، الوطنية، ونجاح الثانية الكبير، أن في الأولى منعت الوزارة الجمعيات من استقطاع أي مبلغ من التبرع، فتقاعسوا عن الجمع. لكنهم نشطوا في الثانية لوجود نسبة القائمين عليها، وقدرها 12.5 في المئة، هذا على افتراض صحة وجود مشاريع في الخارج أصلا!
لو كنت مسؤولا لطالبت بإحالة مجالس إدارات كل الجمعيات، من دون استثناء، للنيابة، لمعرفة مصير ما جمعوا من أموال، على الأقل في السنوات العشر الأخيرة؟ حينها سنرى كيف يشيب الولدان!
العمل الخيري بخير، ونحن مستمرون فيه، لكنه أصبح فقط أقل فسادا بكثير، بعد أن تم حصره داخل الوطن. وصراخهم من حجم ألمهم، وخسارتهم المادية.
أحمد الصراف