منذ سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، برز إقليم كردستان بوصفه إحدى التجارب السياسية الأكثر تمايزًا في المشهد العراقي. لم يكن ذلك فقط بسبب خصوصيته القومية، بل لأنه استطاع أن يفرض نفسه ككيان سياسي مستقر، يتمتع بمؤسسات دستورية واقتصاد منفتح وعلاقات إقليمية ودولية متوازنة.
ولعل ما يلفت الانتباه هو قدرة الإقليم على التكيف مع العواصف السياسية والاقتصادية التي ضربت العراق، من دون أن ينزلق إلى دائرة الفوضى أو التفكك، كما حدث في مناطق أخرى.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يجد إقليم كردستان نفسه أمام مفترق طرق: بين الحفاظ على منجزاته، والانطلاق إلى مرحلة جديدة من البناء المؤسسي، أو الانكفاء أمام التحديات الداخلية والخارجية.
مسرور بارزاني يُعيد تشكيل مستقبل الإقليم عبر مزيج من الإصلاحات الداخلية وتفعيل الشراكات مع بغداد والمجتمع الدولي |
وهنا تبرز أهمية القيادة السياسية في صنع الفارق. وفي هذا السياق لا يمكن تجاهل الدور المتصاعد لرئيس حكومة الإقليم، مسرور بارزاني، الذي يقود مشروعًا لإعادة ترتيب البيت الداخلي الكردي، وتحديث العلاقة مع بغداد، والانفتاح على الجوار الإقليمي وفق منطق المصالح المشتركة.
لقد أدرك بارزاني مبكرا أن الاستقرار السياسي في كردستان لن يتحقق ما لم يتم ربطه باستقرار العلاقة مع بغداد. لذلك تبنّى سياسة مزدوجة تقوم على التمسك بالحقوق الدستورية من جهة، والانفتاح على الحوار المرن من جهة أخرى.
ولعل ما يميز هذه المرحلة هو تراجع نبرة التصعيد مقابل تصاعد منطق التفاوض الفني والبراغماتي، خاصة في الملفات المعقدة كقضية النفط والرواتب والصلاحيات. هذه المقاربة، وإن لم تحقق كل أهدافها بعد، إلا أنها وضعت الإقليم على مسار أكثر عقلانية في إدارة خلافاته مع المركز.
في موازاة ذلك عمل مسرور بارزاني على تعزيز العلاقات الإقليمية، لا بوصفها خيارا تكتيكيا، بل كجزء من رؤية إستراتيجية لإدماج الإقليم في محيطه الجغرافي.
العلاقة مع تركيا، مثلا، تم تعزيزها استنادا إلى المصالح الاقتصادية والطاقة، في حين سعت حكومة الإقليم إلى الحفاظ على قنوات التواصل مع إيران رغم التحديات المعروفة.
هذا التوازن في السياسة الخارجية مكّن الإقليم من تجنب الانزلاق في لعبة المحاور الإقليمية، وهو إنجاز مهم في منطقة يغلب عليها الاستقطاب.
التحديات لم تنتهِ، بل ربما تزداد تعقيدًا مع اقتراب الاستحقاقات السياسية المقبلة في بغداد وأربيل |
لكنّ التحدي الأكبر لم يكن في الخارج، بل في الداخل الكردي نفسه. الانقسامات السياسية، وتباين المصالح بين الأحزاب، وغياب الثقة بين الفرقاء، كلها عوامل أعاقت مشروع الوحدة الوطنية الكردية.
وهنا حاول بارزاني فتح قنوات حوار كردي – كردي، وقدم مبادرات لجمع الأحزاب الكردية على طاولة واحدة. لا يمكن القول إن هذه المحاولات حققت اختراقًا جذريًا، لكنها بلا شك وضعت الأساس لثقافة سياسية جديدة قوامها الشراكة لا الإقصاء.
أما على صعيد الأداء الحكومي فقد شهد الإقليم خطوات ملموسة في مسار الإصلاح، سواء في الإدارة أو في ملف الفساد أو في دمج الطاقات الشبابية ضمن مؤسسات الدولة.
والأهم من ذلك هو السعي الجاد لتنويع الاقتصاد بعيدا عن الريع النفطي، من خلال تشجيع الزراعة والسياحة والاستثمار. وهذا ما عكس نفسه في مشاريع التنمية العمرانية والبنية التحتية، التي امتدت من مراكز المدن إلى الأطراف.
إن تجربة مسرور بارزاني، حتى الآن، تقدم نموذجا لقائد يحاول أن يعيد تعريف مفهوم “الحكم” في كردستان: ليس فقط بوصفه سلطة تنفيذية، بل باعتباره مشروعا للتوازن بين الحداثة السياسية والتقاليد المجتمعية، بين الواقعية السياسية والطموحات القومية.
يبقى أن التحديات لم تنتهِ، بل ربما تزداد تعقيدًا مع اقتراب الاستحقاقات السياسية المقبلة في بغداد وأربيل. لكن إذا استمرت هذه المقاربة في الحكم والإصلاح والانفتاح، فإن كردستان تمتلك فرصة حقيقية للتحول إلى نموذج سياسي مستدام داخل العراق، وربما في المنطقة ككل.