يواجه المفاوض الأميركي ارتباكاً واضحاً في القرار الاستراتيجي، في ظل تنحي مستشار الأمن القومي مايك والتز وتولي وزير الخارجية ماركو روبيو مهام المنصب بشكل مؤقت، ما يزيد الضبابية على مواقف واشنطن، لا سيما من الملف الإيراني. ويبدو لمتابع المفاوضات الإيرانية - الأميركية التي تأجلت إلى موعد لاحق، كأنها في واد، وما يصدر عن المسؤولين الأميركيين والإيرانيين في واد آخر، ولعل ذلك جزء من آليات التفاوض. الرئيس دونالد ترمب يعمل على مسارين يظهران منفصلين، الأول يهدف لمنع إيران من الحصول على سلاح نووي ووقف برامج تطوير صواريخ باليستية بعيدة المدى، والثاني تقوده نائب المبعوث الرئاسي للشرق الأوسط مورغان أورتاغوس لحل معضلة سلاح «حزب الله»، ومهمتها في سباق مع الوقت لحلها قبل نهاية المفاوضات.
المسار الأول هو الأكثر أهمية للولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ليس متعذّراً بسبب الظروف المحيطة. إيرانياً، النظام في موقف أكثر ضعفاً بعد نتائج طوفان الأقصى وحربَي غزة ولبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا. الاتفاق يحرر إيران من عقوبات قاسية، ويسمح بتدفق أموال الاستثمارات الغربية والإفراج عن أخرى، وتطبيع ولو فاتراً مع الأميركيين. جل ما تحتاج إليه هو تخريجة تحفظ ماء وجهها.
أميركياً، ترمب بحاجة إلى إنجاز سريع بعد المائة يوم الأولى من ولايته، جراء تداعيات التعريفات الجمركية التي اضطر إلى تجميد معظمها، إضافة إلى توتر علاقاته مع حلفائه الأوروبيين وتقربه من موسكو وتطلعاته التوسعية بما يخالف المبادئ التي قامت عليها السياسة الأميركية منذ 1945، والتي يمكن تلخيصها بثلاثة: التحالفات الدولية، والردع واحتواء التوسع الروسي، والديمقراطية والأسواق الحرة. دون أن نغفل القلق من احتمال توترات أهلية في سوريا، في وقت تستمر فيه الأزمة في غزة من دون أفق، وسط تحركات مريبة لـ«حزب الله» لمواجهة نزع سلاحه.
الخشية جراء الارتباك والعجلة أن يقتصر الاتفاق على الملف النووي والصواريخ الباليستية دون تعطيل قدرات طهران، وهي أدوار الحلفاء وسط البيئات المحلية بالمنطقة. عندها تكون إيران، كعادتها، باعت جلد الدب قبل صيده، تهدد بالنووي لتقايضه بمصالح غالباً ما تفوقه أهمية أبرزها النفوذ في الإقليم وحماية النظام. مهما بلغت تعهُّدات إيران في الاتفاق أو خارجه بشأن تغيير السلوك وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، لن تمنعها من إرسال الأموال التي ستتدفق عليها إلى الحلفاء بالمنطقة.
يعيدنا ذلك إلى مهمة أورتاغوس التي تُواجَه بحملة مدروسة من «حزب الله»، قوامها رفض البحث في السلاح، قبل تحرير كامل الأرض اللبنانية، وطلب لبنان الرسمي التمهُّل بتسليم السلاح وعدم الالتزام بمواعيد. الجهتان تنتظران نتائج المفاوضات لأسباب مختلفة ومتباينة: الدولة بانتظار اتفاق ينهي أدوار حلفاء إيران. وفي حال تعذره، اللجوء إلى البديل العسكري، ونتائجه معروفة، وشظاياه ستطال الكثيرين. «حزب الله» ينتظر المفاوضات قبل تسليم السلاح لضمان استمرار الدعم المالي الإيراني إذا نجحت، وتمكينه وتحديث نفوذه الداخلي على بيئته وفي الحياة السياسية.
يؤمل أن تكون الأجندة الأميركية بالمنطقة ولبنان تشمل حلفاء إيران، وعلى تنسيق مع ما يجري في أروقة المفاوضات، لأن عودة تدفق المساعدات الإيرانية أخطر من السلاح النووي، وستعيد تفعيل دور «حزب الله» السياسي والديني والثقافي في بيئته خصوصاً، ولبنان عموماً. وما ينطبق على الحزب ينطبق على باقي الحلفاء في الإقليم بنسب مختلفة حسب ظروف كل دولة.
معيار نجاح أو فشل المفاوضات يجب ألا يقتصر على منع إيران من اقتناء قنبلة نووية، بل يتخطاه ليشمل التوقف عن دعم الكيانات الخارجة عن الدولة، ونتطلع لتكون المفاوضات الحالية قد أعطت هذا الأمر أهميته. إنها اللحظة المناسبة لتستخدم إدارة ترمب أقصى الضغوط لإجبار إيران على التخلي عن برنامجها النووي ودعم حلفائها وأدواتها في المنطقة، وإذا كانت إيران تريد حقاً اندماجاً كاملاً في النظام المالي العالمي؛ فعليها أن تكون مستعدة للتخلي عن كل من التخصيب والأنشطة المزعزعة لأمن المنطقة. وما يؤسف حقاً هو التعويل على الموقف الإسرائيلي الذي يرتاح حكماً لأي اتفاق يمنع إيران من السلاح النووي، إنما على الأرجح، لن يسمح لمحيطه من غزة إلى سوريا ولبنان بالبقاء تحت سطوة منظمات خارج الدولة.
السيدة أورتاغوس، كما لبنان الرسمي، يعرفان أن إسرائيل لن تبقى متفرجة، ما دام سلاح الحزب متفلتاً جنوب الليطاني وشماله؛ ما يحتم عليها إذا كانت تنسق مع مفاوضات مسقط ممارسة المزيد من الضغوط على الحكم في لبنان لأخذ مواقف بالسياسة تؤكد شرعية الحزب السياسية، بينما تصنف سلاحه وأعماله «المقاومة» القتالية غير مشروعة، مع ما يستدعي ذلك من إجراءات. هذا الموقف يعيد الزخم السياسي الأميركي الذي قد يتراجع بعد المفاوضات، ويعيد تحفيز العرب على المساعدة، ويحصِّن لبنان من جنون إسرائيلي البعض يعتبره مؤجلاً، إنما شبحه يطلّ بالقصف والاغتيالات شبه اليومية.