سليمان جودة
يبدو التسجيل الصوتي العابر الذي استيقظ عليه أبناء مدينة جرمانا السورية قبل أسبوع، وكأنه رأس جبل عائم لا نعرف حجمه ولا أبعاد المساحة التي يتمدد فيها. وإذا كان رأس الجبل العائم هو التسجيل الصوتي الذي تسبب في وقوع أحداث عنف مفاجئة في المدينة، فالجبل نفسه هو وسائل التواصل الاجتماعي التي تتوغل في حياتنا وتتوغل كل يوم، وبغير أن تتبدى لها أو لنا حدود يمكن أن تتوقف عندها.
أما جرمانا فهي تقع جنوب العاصمة السورية دمشق، وأما الفيديو فكان منسوباً إلى شيخ درزي يقول كلاماً مسيئاً للمقدسات الإسلامية.. ولكن سرعان ما تبين أن الفيديو مفبرك بنسبة مائة في المائة، وسرعان ما خرج الشيخ الذي سمع أهل المدينة صوته في التسجيل، ليقول أن هذا ليس صوته، وأن الكلام الذي ورد على لسانه ليس كلامه، وبما يعني في النهاية أننا أمام تسجيل مصنوع بالجملة وبالتفصيل!
من الذي صنعه، وكيف، وأين تم ذلك، ولأي غرض بالضبط ؟ هذا ما سوف تكشف عنه التحقيقات الجارية حتى لحظة كتابة هذه السطور. ولكن المشكلة أن المسافة الزمنية الفاصلة بين نشر التسجيل وانتشاره على مواقع التواصل وبين اكتشاف فبركته، شهدت أحداث عنف أسقطت قتلى ومصابين، ولم تهدأ الأمور نسبياً إلا بعد أن تبين أن التسجيل زائف، وأن ما فيه ليس صحيحاً لا على مستوى الشكل ولا على مستوى المضمون، وأن الذين انساقوا وراءه كانوا خاطئين.
والحقيقة أن تسجيل جرمانا العابر لا يمكن فصله عن أحداث العنف التي جرت وقائعها في الساحل السوري قبل أسابيع، ففي الحالتين نجد أنفسنا أمام يد خفية تلعب من وراء ستار، ولا هدف لها سوى العودة بالجمهورية العربية السورية إلى ما قبل سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمير الماضي.
كان طه حسين قد كتب إهداءً في صدر الصفحة الأولى من أحد مؤلفاته فقال: «إلى الذين لا يعملون ويسوؤهم أن يعمل الآخرون». كان الإهداء في حقيقته صيحة من صاحبه إلى الذين لا يعملون، وكان الأمل أن يكفّوا أيديهم عن الذين يعملون إذا أعجزهم هم أن يعملوا. كان عميد الأدب العربي يطلق صيحته ولسان حاله يقول: «إذا لم تستطع مساعدتي فليس أقل من أن تمتنع عن تعطيلي أو الوقوف في طريقي». ولا بد أن معنى عبارة طه حسين إذا انطبق على حكومة في المنطقة من حولنا، فسوف ينطبق أكثر ما ينطبق على حكومة الرئيس أحمد الشرع في دمشق.
فالذين انتفعوا من وجود الأسد في الحكم كثيرون، والاستفادة لم تكن من جانب أفراد أو آحاد فقط، فهذا يحدث في الغالب حول كل حكومة ومع كل نظام حكم، ولكن خط الاستفادة كان يمتد ليصل الى جماعات ودول، ومن شأن هذه الجماعات والدول ألا تصدق نبأ سقوط الأسد، وأن تظل تقاوم لعلها تستعيد بعضاً مما فقدته من نفوذ ومن غير نفوذ. هذا بالضبط ما تجد حكومة الشرع أنها واقفة أمامه في كل نهار، وهذا هو ربما التحدي الأكبر الذي يتبدى أمامها كلما اتخذت خطوة إلى يمين أو يسار، وهذا ما سوف يكون عليها أن تتهيأ له، وأن تتوقعه، وأن تكون جاهزة للتعامل معه، وأن تتسلح في ذلك بوعي السوريين أنفسهم، وبرغبتهم في أن يكون بلدهم لهم بكامل ثرواته.
وإذا كان للسوريين في مجموعهم أن يتحصنوا بشيء في هذه الأجواء، فسوف يكون عليهم أن يتحصنوا بالآية الكريمة التي تقول: (يا أيها الذين آمنوا إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا). فمن هنا إلى أن تستقر الحكومة في عاصمة الشام، وهذا أمر سوف يستغرق وقتاً بطبيعته، فإنها ستكون على موعد مع أشياء كثير تشبه هذا التسجيل العابر، وسوف يتضح في النهاية أنها أشياء لا أساس لها من الصحة، ولكن العبرة أن يتضح ذلك للأشقاء في أرض الشام مبكراً، وألا يجدوا أنفسهم مضطرين في أحداث أخرى إلى دفع ثمن عدم التحقق من صحة ما يتربص بهم عند كل منعطف.
التسجيل العابر درس أكثر منه تسجيلاً جرى دسه لأغراض لا تخفى على أحد، وإذا وعى الإخوة السوريون هذا الدرس فسوف يقطعون الطريق على كل متربص، وسوف يكون أمرهم بأيديهم لا بأيدي الذين يحاولون في الساحل مرة، وفي جرمانا مرة، فإذا أخفقوا في الساحل وفي جرمانا فسوف يكررون المحاولة مرات .. ولكن استيقاظ الوعي بين السوريين كفيل بألا تنجح كل المحاولات في كل المرات. أما الفاسق الذي جاء بالنبأ في واقعة التسجيل فهو مواقع التواصل التي إذا لم نتبين ما تنشره، فإنها تصيب قوماً بجهالة على حد تعبير الآية الكريمة، وهذا ما جرى في جرمانا ولا يجوز أن يجري في سواها من مدن الشام.