ولّدت وتولّد كلّ يوم بل كل لحظة ما يمكنني تسميته بالحروب الإسرائيلية العسكرية الأخيرة الهندسية والمدروسة بإحكام، والمفاجئة بل المُكلفة بما يتجاوز الخيال. نحن بحاجة إلى الكثير من الهدوء والتفكير في الهزّات الدموية الضخمة التي أيقظت العالم من غزّة ومساندة جنوبي لبنان وضاحيته المسنودة إلى عاصمته بيروت المتحيّرة بحثاً محيّراً عن رئيس لجمهوريتها الذي يلوح ولا يبوح أحد به بعد. وجاءت الثورة السورية المُفاجئة بدورها وارتداداتها بما يشغل الدبلوماسية الدقيقة في العالم بانتظار فهم تلك المرحلة من خطى الرئيس المجدّد ولايته دونالد ترامب نحو عالمٍ يصفه العامة بالجديد والمحيّر والغريب.
هل أتجرأ بالقول إنّ إسرائيل خلافاً لتاريخها في الحبر العربي قد خرجت أو هي تخرج نهائيّاً من بين القوسين العربيين اللتين لطالما كانتا تحوقانها على الأقل في لغة الضاد ونصوصها. كانت هاتان القوسان تولدان التباساً واتهامات وطوفانات مذمّات وتحقير يطفو حادّاً لكأنها تراجعت بل ذوت كلها وانطفأت من دون جدل عقيم أو عقابٍ أليم. أثارت المسألة لدينا التي قد اعتبرها بعض الزملاء الأكاديميين عابرة بل سطحية محطة تاريخية شديدة الأهميّة تستحق التوقّف عندها بهدوء وموضوعية علمية. أتذكّر عندما قال دبلوماسي أمريكي من دون أيّ تنسيق مع الجانب الإسرائيلي: إنّ «لا سلطة لإسرائيل على حائط المبكى» المعروف ب«حائط البراق»، سقطت أبنية من الغضب والاحتجاج الإسرائيلي على البيت الأبيض الذي سارع إلى نفي هذا القول الذي لا يعبّر لا عن قناعات واشنطن ولا عن الرئيس دونالد ترامب خلال ولايته السابقة.
تجاوز الحادث الدبلوماسي اللفظة نحو المكان بمعناه وحدوده التاريخية، والسبب أنّ غضب إسرائيل وتهديدها بالانسحاب من التفاهم مع الأمريكيين، دفع إلى تحرك سفيرها رون ديرمر لدى أمريكا بين 2013 و2021 والذي سرعان ما وصل البيت الأبيض محتجّاً رسمياً ومطالباً بتراجع دبلوماسي عن قوله ودحضه له والتصريح بنقيضه عبر وسائل الإعلام في العالم وهو ما لم يحصل.
لماذا لم يحصل؟
لربّما لقناعةٍ رسميّة أمريكيّة تتجاوز الدبلوماسيات باعتبار الجدار في الضفة الغربيّة عبر سياسات الاستيطان هذا من دون التذكير بأنّ اختيار ترامب لإسرائيل آنذاك محطّة لزيارته خصوصاً إذ كان الرئيس الأمريكي الأوّل الذي هزّ رأسه أمام الجدار محقّقاً الهاجس الإسرائيلي التاريخي والملحاح لأمريكا والعالم بتحقيق سيادة إسرائيل الكاملة على القدس كما حصل فيما بعد. يمكنني إدراج مثل هذا القول يومها بصفته «زلّة لسان» أو «فعل ناقص» أو «مرتجل» أو «مقصود» حافل بالمعاني التي ستنبت في المستقبل إذ لم يحن وقتها بعد، لكنّ الأمر يتجاوز مسائل التعبير واللغات والمصطلحات والترجمات الدولية التي لطالما كانت حافلة بتشابكات النصوص وغموضها عبر مسائل الخلافات التاريخية حول الحقوق وخصوصاً بين ممثلي الدول في المنظمات الدولية.
أتجاوز الدبلوماسيات والعِبَر أو خطب التمسّك بالتاريخ اليابس عبر تعاقب الأجيال إلى التفكير بثلاثة أنواعٍ من الدول: دولة ذات نظام وشعب قوي، ودولة ذات نظام قوي وشعب ضعيف، ودولة ذات نظام ضعيف وشعب قوي. ليس مهمّاً إيراد أمثلة، لكن إسرائيل تبدو من الصنف الأوّل العنيد. لم يتردّد رؤوفين رفلين رئيسها العاشر (2014 - 2021) من مخاطبة ديفيد فريدمان الذي كان مستشاراً للرئيس ترامب خلال حملته الرئاسية الأولى ثمّ عيّنه في ال2017 سفيراً لأمريكا في إسرائيل الذي قال بنبرة لدى تقديمه لأوراق اعتماده وبصوت صارم: «تذكّر أن عمر القدس هو من عمر الملك داوود».
أخلص وقد طرحت على نفسي وعلى طلابي في الدراسات العليا مناقشةً عابرة: ما قيمة سجن إسرائيل بقوسين تدليلاً على عدم الاعتراف بها مقابل القول والكتابة عن فلسطين المحتلّة أو المغتصبة والجريحة إلخ من التسميات الشائعة لكنها المتحولة في الكتابة العربية وفي الوقائع والسياسات العالمية العامة؟
الجواب كان الإقرار بأنَ المصطلح «إسرائيل» كان من المحرّمات في الكتابة العربية لكنّ هذه ال«كان هي شقيقة أصبح» في قواعد لغتنا العربية فكيف كان هذا الماضي السياسي السحيق بل كيف سيبقى شقيقاً للمستقبل البعيد عبر تراتبية الأجيال والأحداث والحروب وتوصيف الجرح العربي الذي لم يعرف دمه اليباس منذ ال1948 عبر الأجداد فالآباء والأبناء والأحفاد بل ما قيمة التمسك بهذين القوسين؟
تتغير الأدوار والمكانات بين المقدّسات والمحرمات، وتنفتح الجراح على جراح أو أفكار جديدة في عصر الفضاء ونبدو من بيروت إلى دمشق والعراق بل المشرق العربي في حالٍ من الإعياء بين الأمّة والوطن والشرق غير المستقر، في الوقت الذي تتقدّم فيه إسرائيل بسرعة قياسية نحو التمسّك الصلب بالتاريخ بعدما زُجّت الأنظمة والشعوب والأجيال المعاصرة في الصراعات التي أشبعت بوقود وأساليب حامية تذكي النيران الفضائية بصفتها مصائر قادمة ملفوفة بالأوراق والمشاريع والمبادرات منذ وعد بلفور حتى تعبيد طريق حلف شمالي الأطلسي طلباً للأمن والاستقرار. تقاطر ذلك كلّه تحت عناوين وأفكار عامة، مثل الشرق الأوسط الكبير وصراع الحضارات أو نهاية التاريخ، وعدتها العولمة وسهولة الاتصال وسقوط الحواجز والحدود.