أمينة خيري
لا بد أن تخضع حسابات المقاومة والممانعة والمصالحة والمباعدة والمخاصمة والمقاربة لإعادة نظر في منطقتنا. الحسابات ليست إجرائية أو سياسية أو اقتصادية فقط، ولكنها نفسية واجتماعية ومنطقية أيضاً.
فرق كبير بين أن تضع هدفاً لنفسك أو أسرتك أو جماعتك أو بلدك لا يمكن تصنيفه إلا «رابع المستحيلات» نظراً لهدم توافر أي من مقومات تحققه، وبين أن تضع أهدافاً منطقية عقلانية بناء على حسابات متعقلة لا شطحات لا يتسم بها إلا المراهقون.
اعتاد كثيرون في منطقتنا العربية خلط الحلم بالواقع، وهذا مقبول في حال عملوا واجتهدوا، ومضوا قدماً في تحويل الحلم إلى حقيقة، لا مطالبة الآخرين بتحويل حلمهم إلى حقيقة، واعتاد آخرون نبذ الفرص، وإجهاض الحسابات المنطقية انتظاراً لما لن يأتي أبداً.
لو كان صمويل بيكيت حياً لأضاف لمسات عصرية لمسرحيته «في انتظار جودو»، فبيننا من يصر على الإمساك بتلابيب أمل لم ولن يأتي لسبب بسيط، وهو أن العوامل المؤدية لمجيئه لا يتوافر منها إلا خاصية الانتظار.
كثيرون بيننا يلعبون دور «فلاديمير» و«إستراجون» في رائعة بيكيت، ينتظران «جودو»، الذي لا يأتي أبداً، وبينما ينتظران يتحدثان ويتناقشان ويتجادلان، يفكران في الانتحار تارة، ثم يعدلان عن قرارهما، ويستمران في الانتظار، ولا يأتي «جودو».
بيننا من يضيف لخاصية الانتظار المزمن لعنة الإنكار. لوحة عليها لونان، الأبيض والأسود، ولا ثالث لهما. الرائي يحب ألوان الطيف، ينكر ما يرى، ويؤكد لنفسه ومن حوله أن اللوحة عامرة بما لذ وطاب من صنوف الألوان. ينجح فيما يفعل، ويتحول الإنكار إلى أسلوب حياة.
الأدهى من الانتظار المزمن هو الإنكار المستدام، والأسوأ من كليهما هو مطالب الآخرين، وأحياناً محاولة إجبارهم، للبقاء في الخانة ذاتها. مدرسة شمشون الجبار «علي وعلى أعدائي» وهدم المعبد على رؤوس الجميع، الأحباب قبل الأعداء، لم تعد مجدية، حتى وإن تمسك بها البعض.
البعض لم يسمع عن شمشون أو لا يدرك نظرية هدم المعبد على الجميع. في فيلم «الناظر» للراحل علاء ولي الدين، كان هناك طالب ضخم الجثة، حاد الملامح، مفتول العضلات، يعتبر كل مهمته عرقة مسيرة التعليم في المدرسة.
اعتمد على ترهيب الناظر والمعلمين والطلاب صارخاً: «ماحدش هيتعلم هنا، ما حدش هيقدر يعمل حاجة. عايزين مني إيه؟ وهذا بالضبط ما تعتنقه أو تنتهجه جماعات لها متابعون وأنصار في المنطقة».
يعتمدون في ترويح الفكرة على الخداع الذهني والفكري والثقافي، ويبقون على أنصارهم وأنصار أنصارهم حبيسي الفكرة، ليس هذا فقط، بل يصورون لهم المعترضين وكأنهم إخوان الشياطين.
مع نهاية عام صعب وحاسم ودال ومؤثر في مستقبل المنطقة العربية حري بنا، أو بالعقلاء بيننا، إخضاع حسابات المقاومة والممانعة والمقاربة والمباعدة، وغيرها لإعادة هيكلة.
أثر الدومينو الجاري في المنطقة لا يحدث اعتباطاً أو مصادفة، والتأثير لن يتوقف، قد يتباطأ، أو يأخذ هدنة، لكنه سيستمر إلا لو احتكمت الأغلبية للعقل والمنطق. ويجب التفرقة بين عقلانية الاحتكام لصالح الجميع، وبين وصم المنتظرين لـ«جودو» له بالتقاعس أو التهاون أو الاستسلام.فرق كبير بين الانتحار والانتصار، وكذلك بين تحويل الحلم إلى حقيقة، والاكتفاء بالحلم أسلوب حياة.
أوشك العام الصعب على الرحيل، لكن رحيله لا يعني إغلاق الصفحات التي انفتحت خلاله، العكس هو الصحيح. عام 2025 يحمل الكثير من المتغيرات المحورية للمنطقة العربية. اللاعبون كثيرون، والمتنافسون على المنطقة شرسون، أما أهل المنطقة فبينهم غارقون في عسل الانتظار والإنكار، وآخرون مثقلون بهم المضي قدماً رغم أنف الأحداث والأهوال.
خريطة المنطقة الجاري إعادة رسمها منذ سنوات تتشكل، وشتى قوى الأرض تتوقع وتتنبأ، بالإضافة لهرولتها وعملها من أجل حجز أدوار لنفسها. مع انقضاء عام واستقبال آخر أهل المنطقة العربية يستحقون قدراً أوفر من الواقعية لا الخيال.
وكماً أكبر من الرفاه الناجم عن الاستقرار والأمان، لا الفقر والإفقار الناجمين عن حالة الانتظار والإنكار إلى ما لا نهاية. وما كان العامل المحرك والفاعل المؤثر قبل عقود ليس بالضرورة الأفضل والأنجع في 2025.
*كاتبة صحفية مصرية