ثمة مواجهات دامية في مخيم جنين شمال الضفة الغربية بين قوى الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية و"كتيبة جنين". تجاوز الأمر، هذه المرة، الصدامات المتكررة المدفوعة بالتوتر والنزعات الفردية والاستفزازات الصغيرة التي كانت تنتهي عادة بـ"مصالحة" ما. الحملة، التي نظمتها السلطة تحت اسم عام يعكس أهدافاً أبعد من مجرد الملاحقة هو "حماية وطن"، تتواصل منذ أكثر من عشرة أيام، وتشارك فيها قوات معززة وآليات مدرعة، أصبح بالإمكان مشاهدتها بسهولة في الطرق المؤدية إلى مركز المخيم وعلى مداخله. الحملة تتحرك تحت مظلة إعلامية منسقة تشارك فيها المؤسسات الإعلامية للسلطة، وتضع أهدافاً وشعارات معلنة، مثل "ملاحقة الخارجين على القانون والحفاظ على أمن المواطنين"، مستفيدة من التجاوزات والفوضى والوضع الاقتصادي المتردي وبطالة العمال في الداخل وخوف الناس وتعبهم. الأخبار الواردة من المخيم تشير الى أن الكتيبة والفصائل تحاول الوصول إلى التهدئة عبر تعهدات وتنازلات لا تصل إلى تسليم السلاح، في حين تصر أجهزة الأمن على تسليم السلاح و"محاسبة الخارجين على القانون". بضعة شباب، عشرة أقل أو أكثر، سلموا سلاحهم في حين أغلبية أفراد الكتيبة والفصائل يرفضون ذلك بموازاة إعلان التزامهم بمراعاة أمن المخيم ومحاربة التجاوزات في حالة حدوثها، وأن السلاح هو لمواجهة اقتحامات جيش الاحتلال وهجمات المستوطنين المسلحين. في التفاصيل المتسربة أن بعض كبار ضباط الأمن اعترضوا على الحملة من حيث الحجم والتوقيت والمخاطر التي يمكن أن تنشأ عن هذا الاقتتال، ولكن الرئيس محمود عباس، حسب هذه التسريبات التي وصلت إلى الصحافة، أمر بـ"إنجاز المهمة" وأن "من يخالف الأمر سيفصل". هذه حملة مختلفة تماماً تأتي بموازاة الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة وعلى تخوم اتفاق متداول لوقف إطلاق النار، وفي سياق الانطباع السائد حول ضعف "حماس" وتقويض نسبة كبيرة من نفوذها الشعبي وحضورها العسكري، وتستفيد بشكل واضح من اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان بين "حزب الله" وإسرائيل ونجاح حكومة نتنياهو في كسر "وحدة الساحات"، وتتغذى على سقوط نظام الأسد في سوريا ووصول "هيئة تحرير الشام" إلى السلطة في دمشق. وهي في الوقت نفسه (الحملة الأمنية) تشكل جانباً من عملية قطع "طرق الإمداد" وتقطيع الجسور والشبكة اللوجستية التي أنشأتها إيران في المنطقة، أو هكذا تبدو وهو ما يؤشر إليه اتساعها وتوقيتها وأهدافها. فشلت تقريباً الأساليب التقليدية المتبعة في محاولات التهدئة، وإطفاء الحرائق القائمة على التدخلات المجتمعية ودور رجال الإصلاح والوجاهات الوطنية... الأمر يذهب أبعد من ذلك، ويتكشف عن محاولة جدية ومخطط لها لاستعادة سيطرة السلطة على البؤر المشتعلة في شمال الضفة على وجه الخصوص، والذي يشكل مخيم جنين نموذجاً لها، ولكن الأمر بكليته يتحول، بالنسبة للسلطة وقيادتها، إلى اختبار حاسم لقدرة السلطة وجهازها الأمني بفروعه المختلفة، على بسط نفوذه وإدارة الشأن المعيشي والأمني، كمقدمة لمفاوضات "اليوم التالي"، سواء في غزة حيث تصل بين وقت وآخر أفكار حول دور للسلطة على "معبر رفح"، وإعادة احياء اتفاق 2005 بإشراف الاتحاد الأوروبي، وهو اتفاق توقف العمل به بعد استيلاء "حماس" على السلطة في القطاع صيف 2007، أو الحصول على دور إجرائي كمرجعية تتمثل في "مرسوم رئاسي" في تشكيل "هيئة الإسناد المجتمعي" من المستقلين التي ستتولى إدارة الشؤون المعيشية بما فيها الإعمار في غزة بعد وقف إطلاق النار حسب الورقة المصرية التي وافق عليها الفصيلان فتح و"حماس". تستند رواية السلطة حسب تصريحات وزير الداخلية والمتحدث باسم الأجهزة الأمنية، على ضرورة القضاء على الفوضى والحد من التجاوزات واستعادة القانون وحماية المواطنين عبر محاسبة الخارجين على القانون، وتصل الرواية في بعض التصريحات المندفعة إلى "تجنيب الضفة مصير غزة". بينما ميدانياً، وعلى الأرض تستثمر في الإنهاك الذي أصاب الكتيبة وأفرادها والفصائل من خلال عمليات الاقتحام المتوالية التي نفذها جيش الاحتلال، وعمليات الاغتيال المتواصلة التي استنزفت الهرم القيادي للكتيبة والفصائل العاملة من جهة، وسياسة تجريف البنية التحتية والحصار وإفساد حياة الناس الذين يشكلون البيئة الحاضنة لـ"المقاومين" من جهة ثانية. هذه مواجهة قد تبدو محدودة تجري في مخيم صغير في شمال الضفة الغربية تحت الاحتلال من دون ضمانات، ولكنها تشكل نقطة ارتكاز لمراحل لاحقة قد تتوسع وتتجه نحو مدن الشمال. مواجهة لا يمكن عزلها عن تحولات الإقليم الكبرى وتحديد مقاعد وأدوار في "اليوم التالي"، وهي قادرة على حسم ازدواجية السلطة في مناطق (أ)، مع التذكير دائماً بالاحتلال وغياب الضمانات. هي محاولة السلطة، ربما الأخيرة، للتذكير بدور يكاد يكون مفقوداً. الدور الذي يحدث لأنك لم تفعل شيئاً.
الضفة الغربية... الحملة في الشمال
مواضيع ذات صلة