: آخر تحديث

عفواً.. أرجو ألا تكون متلازمة"مصر فوبيا"!

6
6
4

هذا سؤال عصي عن الإجابة، لا سيما في مناطق الإبداع إذ يخضع الأمر للذائقة ومستويات الثقافات المختلفة، والخلفيات الأيديولوجية أيضاً، وربما الأهواء في ظل تاريخ عربي طويل من التراشق والاشتباكات اعتدناه كعرب بين بعضنا البعض في كل المجالات التنافسية، يا حبذا المجال الثقافي والأدبي.

هنا.. ومن هذا المنطلق نضع عصا التسيار، ونبدأ الحديث الذي أرجو ألا يجانب الموضوعية، والتحليل السليم لمشهد الجوائز الأدبية الراهن ولجان التحكيم فيها.

رداً على الزميل الكاتب والناقد الأدبي المعروف، السوري الأصل (سويدي الجنسية) خلف علي الخلف، أكتب هذه السطور وسأحاول التركيز على مجموعة من العناصر أضعها بين يدي قارئنا، علّه يضع المشهد كاملاً بين يديه.

أولاً: حاز طرح الكاتب رونقاً خاصاً، حيث وضع يده على موطن من مواطن القوة في فكرته، واستند لما يمكن أن نسميه ظاهرة "الاكتفاء الذاتي" أو "الانكفاء على الداخل" لدى المصريين، وهي حقيقة بادية للجميع، ولا ننكرها نحن المصريون، في كل المجالات وليس الثقافة والأدب فحسب.

ومرجع هذه الظاهرة بعدان مهمان، أولهما: الكثافة السكانية للمجتمع المصري، والزخم العددي سواء بالمشاركة كفاعلين أو التلقي كجمهور، وبالتالي الحضور الدائم والمكثف في كل المحافل سواء السياسية الثقافية والفنية والرياضية والسياسية أيضاً. وذاك أمر حتمي للدول القديمة عالية الكثافة السكانية

ثاني هذه الأبعاد تاريخي، حيث تمتلك مصر تاريخاً قديماً ضارباً في أعماق الماضي البعيد، وربما كان النموذج الاجتماعي الصيني والهندي والإنجليزي، مشابهاً لتلك الحالة التي يتحقق معها الاكتفاء والانكفاء على الثقافات المحلية واللغات واللهجات الداخلية والتراث الشعبي والأدبي لهذه البلاد، وربما اقترب النموذج العراقي في عالمنا العربي من هذه الظاهرة، ولكنه ليس بقوة حضور وتأثير النموذج المصري وذلك ليس حكماً شيفونياً ذاتياً ولكنه واقع مشهود وتفوق تاريخي ملحوظ وسبق لا تخطئه العقول في سياق تاريخي من الإنجازات العلمية والأدبية والفنية، حتى ارتبط في الذهنية العربية مدعوماً بالتراث السينمائي أن المصري مرادف للنبوغ والعلم والذكاء وخفة الظل والحضور.

فمجتمع أحمد شوقي وطه حسين ونجيب محفوظ وأم كلثوم وأحمد زويل وغيرهم، حقاً وبدون مبالغة وصل منذ سنوات لدرجة من التشبع الثقافي والفني والأدبي، لحد الثمالة ما يجعله قاصر النظر، أو ربما غاضاً للطرف عن مناطق الإبداع في المجتمعات العربية الأخرى، تماماً كحالة النظر إلى قرص الشمس التي لا يحسن معها التدقيق في كيانات أخرى محيطة بك.

ثانيا: ما لجأ إليه الأستاذ خلف من حيلة الاستناد لظاهرة الانكفاء المحلي على الداخل التي ذكرناها، هو من قبيل الحق الذي أريد به باطل، لأن سطوره خلت من الموضوعية من مطلع القصيدة، وذلك العنوان الهادف لجذب القراءات فقط: "أبعدوا الكتاب المصريين عن لجان التحكيم" فهذا العنوان لا يليق ورزانة النقد الأدبي وضوابطه، إذ كيف تستبعد بالهوى الشخصي كتلة تأثيرية مهمة كالثقافة المصرية وتقتلعها من المشهد كلية وبإجزام واضح وأسلوب لاذع يشبه بدايات الكتاب الحماسية، دون النظر إلى التاريخ أو حتى النتاج الثقافي الراهن والحديث، والذي لا تخلو منه أي قائمة لجوائز الثقافة العربية في الإمارات أو السعودية أو المغرب العربي.

كان عليك يا عزيزي ألا تشي سطورُك بالتعصب والهوى ضد كل ماهو مصري، وينضح إناؤك بما في داخلك من رفض غير مبني على تحليل سليم.

فكان الأجدر بك، وكنا سنؤيد طرحك عندئذ، أن تستند لظاهرة "الانكفاء على الداخل" وتراعي عدم الوقوع في فخ التعميم الذي لا يليق وسمت النقاد، ثم تستثني وفقاً لذلك، مستخدماً عباراتٍ من نحو "بعض الكتاب المصريين" أو "دققوا في اختيارات المصريين في لجان التحكيم".

ثالثا: استند الكاتب لبعض النماذج وعمم على إثرها حكماً عاماً على النتاج الثقافي المصري، فتذكر سقطةً لمترجمٍ سيئ، ومثال آخر لهيئة مصرية حكومية لا ننكر – كمصريين- أن كثيراً منها شاخ وتردى وطالته أيادي الفساد، وهذه من العجائب المحيرة لهذه البلد، أن التردي الراهن والتراجع عن الريادة والفساد والبيروقراطية في مؤسساتها الثقافية لا يقف حائلاً دون الحضور المؤثر، بل وحيازة وحصد الجوائز والنبوغ المتفجر رغم أنف سلبياتنا المتشعبة كشباك العنكبوت في واقعنا الثقافي.

فهل يحق لي في سياق التعميم أن أنال من الكتلة الثقافية العراقية أو السورية أو المغربية أو الخليجية لمجرد أن صادفت خلال مشاهداتي وملاحظاتي نموذجاً سلبياً، فأستثني من لجان تحكيمي تراثاً ذهنياً عربياً سيضع حتماً الأعمال الأدبية المقدمة في إطارها السليم ووزنها الصحيح، فكما نجرم استبعاد مصر برمتها من لجان التحكيم، فكذلك من المستحيل وغير الممكن والواقعي، استبعاد أي من المجتمعات العربية التي ذكرتها من لجان تحكيم لجائزة عربية ، تحكم على الإبداع العربي الذي يفترض أن يكون نابعاً من بيئات وثقافات متعددة.

رابعاً: المثال الخاص بدعوة الكاتب إبراهيم عبد المجيد -وهو من هو في تصنيف الروائيين العرب- بمقاطعة جائزة البوكر لأنه لم يفز بها، كذلك المثال الخاص بما نشره الروائي إبراهيم فرغلي نتيجة لعدم فوزه، قد يكون أمراً غير مستساغ، لكن في المقابل هناك نماذج أكثر قوة من تصريح الكاتب محمد المنسي قنديل المنصف، وتتكرر كل موسم من كتاب مصريين أشادوا بلجان التحكيم والنتيجة.

ويحضرني تصريح خاص مسجل للكاتب أحمد المرسي مرشح قصيرة "البوكر" لعام 2025 عن روايته "مقامرة على شرف الليدي ميتسي" حيث قال: أنا أعتبر نفسي الفائز بجائزة البوكر لمجرد أن عرفت حكم اللجنة، وأن رواية "قناع بلون السماء" للكاتب باسم خندقجي تستحق الفوز فنياً، ويشغلني كثيراً أن يعرف أنه الفائز ربما دعمه ذلك في أسره وقيده".

كذلك كان تصريح الكاتبة ميرال الطحاوي مرشحة البوكر في عام 2024، وماهي إلا مبدعة مصرية شاركت بعملها الأدبي، في محاولة لاقتفاء أثر الكاتبين بهاء طاهر ويوسف زيدان اللذان حازا الجائزة في نسخها الأولى وهذا عهد المصريين أن يفتتحوا، ثم يسير ركب الإبداع حذوهم.

كذلك يحضرني في النسخة الحالية من حفل جوائز القلم الذهبي التي نظمتها باحترافية وتألق المملكة العربية السعودية ممثلة في الهيئة العامة للترفيه كثير من النماذج للمصريين الفائزين بالمراكز الثانية والثالثة للمسارات المختلفة، وحساباتهم الشخصية على منصات التواصل الاجتماعي شاهدة على فرحتهم بالنتيجة واعتزازهم بالجائزة وبتنظيمها وقرارات اللجنة.

فليخبرنا الأستاذ خلف من أين جاء بموضوع مقاله المتعصب، وأن المصريين يعترضون ويشككون في نتائج لجنة تحكيم القلم الذهبي؟!

أرجو أن يكون لديه رد! وأرجو ألا يكون مصاباً بما بات يسمى "مصر فوبيا" وهي متلازمة قديمة اعتدنا عليها جراء كل تفوق مصري على أي صعيد.

خامساً: يحسب للأستاذ خلف في سجله ومشواره الثقافي نضاله ضد تعسف النظام السوري السابق، ووقوفه المشرف ضد طغيانه في كثير من كتاباته وإبداعاته عبر موقع "جدار" الذي أسسه، وهذا في حد ذاته ملف لصالحه كان ينبغي أن يكون شفيعاً له حين يقرر اقتلاع المصريين كلية من لجان التحكيم، فأين ما كنت تنادي به من ليبرالية واحترام الرأي والتعددية؟!

فضلاً عن إقامته لفترة في الأسكندرية وما لها من أجواء ثقافية ونسمات تروق للمبدعين العرب وهو أحدهم، فلمَ لم يترك هواء الأسكندرية أثراً من المحبة في صدر الشاعر والكتاب؟!

سادساً وأخيراً: أؤيد طرح الأستاذ خلف في جعل القوام الأساسي للجان التحكيم في الجوائز الثقافية من كوادر وكتاب وأدباء ونقاد الخليج العربي والمغرب العربي، فكلاهما يمتلك أدوات التمكن والنبوغ، ويقف على نواصي التفرد من حيث القراءة والثقافة والتقييم والإنتاج الثقافي.. ولكن:

فلتتركوا للمصريين مقعداً واحداً فقط في لجان التحكيم، فحسبهم ذلك لتخرج النتائج ببصمة ونكهة مصرية لا غنى عنها في أي إنتاج أدبي عربي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف