منظمة التحرير من القضايا الرئيسة التي تحدد مستقبل السياسة الفلسطينية، وجاء تكوينها في سياق التطور التاريخي للكيانية الفلسطينية، ابتداءً من اللجنة العربية عام 1936، ثم حكومة عموم فلسطين بعد النكبة وحرب 1948 وسقوط القرار الأممي رقم 181 الذي دعا لقيام الدولة اليهودية والدولة العربية، فقامت إسرائيل الدولة ولم تقم فلسطين الدولة، بل إن إسرائيل ذهبت لما هو أبعد بالسيطرة واحتلال الأرض المخصصة للدولة الفلسطينية، وصولاً إلى اليوم وسيطرتها الكاملة.
وفي سياق النضال من أجل الكيانية والهوية الفلسطينية، بعد مرحلة من التشتت في الخيام ودمج الضفة الغربية للأردن وقطاع غزة تحت الإدارة المصرية، تم إنشاء منظمة التحرير عام 1964 من قبل القمة العربية بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني والمجسد لهويته. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت المنظمة هي الناطق والمتحدث الرسمي باسم الشعب الفلسطيني.
ولعل أبرز التطورات التي شهدتها المنظمة، أولاً: سيطرة حركة فتح على رئاستها ومؤسساتها بمشاركة فصائل فلسطينية أخرى، وارتبط مصيرها بمصير حركة النضال الفلسطيني ومقاومة إسرائيل، لتنتهي بالجزائر مقراً لها. وما يميز المنظمة هو تشكيل بنية سياسية ومؤسسات تابعة لها لإدارة الشؤون الفلسطينية في الداخل والخارج والمخيمات. كما أنشئ المجلس الوطني كسلطة تشريعية مشكَّلاً ومنتخَباً من كل الفصائل، إلى جانب اللجنة التنفيذية بصفتها حكومة فلسطينية.
إقرأ أيضاً: أميركا وإسرائيل... من يتبع من؟
أما المحطة المفصلية الثانية في تاريخ المنظمة، فهي توقيع اتفاقات أوسلو التي تمت باسمها، وتشكيل السلطة الفلسطينية وتحول المنظمة إلى الداخل. ولهذا دلالات سياسية عميقة بعيدة في عملية التمثيل، إذ اعترفت المنظمة بإسرائيل، وبالمقابل اعترفت إسرائيل بها. ومع نشوء السلطة الفلسطينية بمؤسساتها التشريعية والحكومة، بدأت عملية التحول في السلطة من المنظمة إلى الحكومة الفلسطينية. وما منع عملية التحول من الانهيار والتراجع للمنظمة هو سيطرة فتح على المنظمة وعلى السلطة الفلسطينية، بدليل أن رئيس السلطة الفلسطينية في الوقت نفسه هو رئيس المنظمة. لكن من تداعيات ذلك فقدان المنظمة الكثير من سلطاتها وفعاليتها، رغم احتفاظها بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بحكم تكوينها للداخل والخارج الفلسطيني.
أما المحطة الثالثة المفصلية في تطور المنظمة وشرعية تمثيلها، فجاءت مع سيطرة حماس على السلطة وانقلابها عليها وتشكيل حكومتها وسلطتها في غزة عام 2007، لتبدأ أسوأ مراحل التطور السياسي نحو قيام الدولة وإنهاء الاحتلال. وخطورة الانقسام لم تقتصر على تجزئة السلطة والحكومة إلى واحدة في الضفة وأخرى في غزة، بل امتد الصراع إلى التمثيل، ومن الأجدر بشرعية تمثيل الشعب الفلسطيني، وهو ما يمس كيانية ومبرر وجود منظمة التحرير. وهكذا بدأت المبادرات والمحاولات لتشكيل البديل للمنظمة بدلاً من إصلاحها.
وخطر الانقسام، الذي تحول إلى حالة انفصال سياسي، يكمن في أن حماس ومعها الجهاد الإسلامي ليستا ممثلتين في منظمة التحرير الفلسطينية. واليوم، نرى محاولة عقد المؤتمر الوطني للحوار، الذي عُقد في الدوحة، يشكل مرحلة أخرى للتأصيل أو البحث عن بديل للمنظمة تحت مبررات الإصلاح السياسي. وهنا تبرز الدعوة إلى إصلاح شامل يطال كل بنية المنظمة، ولكن يبدو أن هناك نوايا غير ما يُطرح من آراء ومبادرات.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وغلق ملفات القضية الفلسطينية
وهنا لا بد من طرح بعض الملاحظات الهامة:
الأولى: بالرغم من فقدان المنظمة لدورها الفاعل، فلا بديل آخر لها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. والبديل الوحيد في حال قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وعندها يمكن أن تتحول إلى شيء آخر كالمؤتمر العام لكل فلسطين. وبناءً عليه، فإن الإعلان عن مرحلة الدولة الفلسطينية، وإن كانت غير مكتملة السيادة لكنها تحمل صفة الدولة المراقب أو الدولة غير الكاملة العضوية، يفترض مراجعة دور المنظمة وعلاقتها بالدولة ومؤسساتها القائمة، إذ إن المنظمة كانت تقوم قبل ذلك بوظائف الدولة. أما اليوم، فتبرز إشكالية العلاقة بين استمرارية المنظمة بدورها ووظيفتها التقليدية وبين الإعلان عن الدولة الفلسطينية التي يُفترض أن تتحول كل المؤسسات إلى تبني هذا المسمى. أما بقاء المنظمة بهيكلها ومؤسساتها نفسها، فقد يخلق ازدواجية وإشكاليات كبيرة.
الثانية: المنظمة تقوم في هذه المرحلة بكل الوظائف التي تقوم بها الدولة، ولها مؤسساتها ووكالاتها وموظفوها.
الثالثة: تطور حالة الانقسام إلى حالة من الانفصال السياسي والصراع على التمثيل، ومن الأحق به. ومن هنا جاءت الدعوات كمحاولة بديلة للبحث عن بديل للمنظمة كممثل شرعي ووحيد، والخطورة في هذه الدعوات تكمن في التشكيك في أحقية المنظمة بتمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج. ونجد صور هذه المرحلة في المؤتمرات والدعوات لإصلاح شامل للمنظمة، وكلها تقف في جانب أحد طرفي الانقسام.
الأخيرة: الحاجة إلى إصلاح المنظمة وتفعيل دورها لتوفر الإطار التمثيلي والشرعي الكامل الحاضن لكل فئات الشعب الفلسطيني وفصائله، وبعدها يُعتبر أي بقاء خارج المنظمة غير شرعي.
إقرأ أيضاً: ما بين المقاومة السلمية والمقاومة العسكرية
ونعود إلى سؤال المقال: هل ما زالت هناك حاجة للمنظمة؟ الأساس في التمثيل للدولة، وليس لأي كينونة سياسية أخرى كمنظمة أو غيرها، على أساس أن الدولة تعتبر أعلى المؤسسات السياسية، وما دونها لا يحق له التمثيل. والمشكلة ليست في من هو الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، بل في السؤال: هل لنا دولة فلسطينية قائمة ومستقلة؟
الدولة الفلسطينية كدولة مراقب، ولها عضوية في الأمم المتحدة قائمة، ولها تجسيد في الداخل، لكن تنقصها السيادة الكاملة على أرضها بسبب الاحتلال الإسرائيلي. ويبقى السؤال الحاسم: هل يمكن الإعلان الصريح عن قيام الدولة الفلسطينية وإلغاء ما قبلها؟ هذه هي الإشكالية الكبرى التي تواجه العلاقة بين الحاجة إلى المنظمة وبقائها واستمراريتها كممثل شرعي ووحيد ومجسد للهوية الوطنية، وبين الإعلان الصريح عن الدولة الفلسطينية.