إيلاف من برلين: في العزلة، حيث لا صوت إلا صوت الداخل، يولد السؤال: ماذا يحدث عندما تفقد المألوف؟ كيف يبدو العالم حين تنكسر صورة الوطن، ويصبح الحنين عبئًا لا مهرب منه؟
من هنا، من هذه المساحات الساكنة الصامتة انطلق فيلم (يونان)، الذي يروي حكاية منير، الكاتب العربي المنفي في جزيرة ألمانية نائية، والذي يحاول أن يعيد تعريف ذاته وسط غربته. عن الغربة، الوحدة، والبحث عن معنى في التيه.
وقبل إعلان جائزة الدب الذهبي الذي ينافس عليها الفيلم السوري (يونان) بين 19 فيلما في الدور الـ 75 من مهرجان برلين السينمائي كان لنا هذا الحوار مع المخرج وكاتب السيناريو الشاب .. أمير فخر الدين.
بداية، كيف ولدت فكرة الفيلم؟
– السؤال الأول الذي راودني كان: كيف يمكن أن تُسرق أمك منك؟ ليس بالمعنى المباشر، بل بما تحمله الأم من رمزية: الوطن، الجذور، الأمان. فكرت في اللاجئين، وماذا يحدث للإنسان حين يفقد حتى الأشياء التي كان يظنها ثابتة؟ هذا التأمل فتح لي أفقًا أوسع عن الغربة، ليس فقط كمسافة، ولكن كحالة شعورية عميقة.
الغربة قدر أم خيار؟
– ربما كلاهما، وربما لا هذا ولا ذاك. منير لم يُجبر على الرحيل، لكنه أيضًا لم يختر النفي. هناك لحظات في الحياة يتلاشى فيها الفرق بين الإرادة والاضطرار، فيجد الإنسان نفسه منجرفًا إلى العزلة دون أن يقرر ذلك بوضوح.
لكن الفيلم لا يتحدث عن الغربة فقط، بل عن الوحدة أيضًا داخل الأوطان ؟
– لأن الوحدة ليست حكرًا على المهاجرين، حتى من يعيش بين أهله قد يشعر بغربة عميقة. الفيلم يحاول أن يلتقط هذه التفاصيل، أن يرينا كيف أن الصمت قد يكون أكثر ضجيجًا من أي شيء آخر، وكيف أن لحظة عابرة من اللطف قادرة على أن تنقذ إنسانًا من الغرق في داخله.
في وسط كل هذا الصمت، كان هناك صوت هانا شيغولا "فاليسكا" ، كيف أقنعتها بالمشاركة؟
– لم يكن الأمر مجرد اختيار ممثلة للدور، كنت أبحث عن روح تشبه الشخصية. عندما كتبت الشخصية، امرأة ألمانية في الثمانينات كنت أبحث عن ممثلة تحمل في ملامحها تاريخًا، شاهدت مقابلات عديدة لهانا، وتأملت كيف تبدو الآن صحيا، وكيف تتحدث، كيف تفكر. كتبت لها رسالة بخط يدي، أرسلتها إلى باريس مع نسخة من فيلم الغريب. بعد يومين، جاء ردها: “أنا مغرمة بهذا الفيلم.” التقينا بعدها وتحدثنا وبدأنا الإستعداد للفيلم .
جورج خباز، حضوره كان مفاجئًا خاصة الدور يتطلب جرأة ولغة ألمانية ، كيف كان التعاون معه وإقناعه بالدور؟
– لم يكن بحاجة إلى إقناع. جورج ليس مجرد ممثل، هو صانع، مفكر، لديه أسئلة وجودية تشبه أسئلة الفيلم التي تشغلني، هو قادم من المسرح، والمسرح ابن الصدق، لذلك كان وجوده إضافة حقيقية للفيلم.
“يونان” المحطة الثانية في ثلاثية سينمائية منتظرة ؟
– هو الجزء الثاني من ثلاثية بدأت بفيلم "الغريب"، وستنتهي بفيلم ثالث، سيكون أكثر تحررًا، أكثر جنونًا ربما.
أكثر حرية حتى من حيث الرتم والبطئ المعروفة أفلامك بها ؟
لا أريد أن أكرر نفسي، أريد أن أكسر التوقعات، أن أذهب إلى أماكن لم أذهب إليها من قبل، حتى في الكتابة.
ماذا عن العنوان؟ لماذا “يونان”؟
– تيمّنًا بالنبي يونس، الذي عاش تجربة الغرق، لكنه نجا في بطن الحوت. في فيلمنا، الحوت ميت، وكأن النجاة لم تعد مضمونة. هناك فكرة أن الإنسان قد ينجو جسديًا، لكنه يظل غارقًا في داخله.
في الفيلم، هناك استحضار للمتنبي ببيت شعر في البداية ؟
أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
المتنبي ليس شاعرًا فقط، هو حالة ممتدة عبر الزمن. هناك أبيات شعرية يرددها بطل افيلم في الختام .." تنسى كأنك لم تكن"
هذا ليس مجرد اقتباس، بل مفتاح لفهم شخصيات الفيلم. كل منفي يشعر أحيانًا أن العالم سينساه. المتنبي كان جزءًا من تكويني منذ طفولتي بدأ والدي يحفظني أبياته منذ الرابعة واعتدت اردد أبيات الشعر امام الأصدقاء وافراد العائلة ولذا .. أردت أن يكون جزءًا من هذا الفيلم أيضًا.