: آخر تحديث

أديس أبابا بين الحلم بالحداثة وفقدان الهوية التاريخية

6
8
5

من زار العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في السنوات القليلة الأخيرة لمس بوضوح مدى التحولات العمرانية الكبرى المتسارعة التي تعرفها عاصمة الديبلوماسية الأفريقية.

وفي الآونة الأخيرة، طالت هذه التحولات كل أوجه المدينة، من أحياء وشوارع وساحات عامة وجسور، وفاجأت العديد من الوفود التي زارتها نهاية الأسبوع الماضي لحضور فعاليات الدورة العادية الـ 38 لقمة الاتحاد الأفريقي.

وليس من المبالغة القول إن أديس أبابا اليوم أصبحت ورشة ضخمة تعيد رسم معالم المدينة، وتحولها إلى عاصمة حديثة تضاهي كبريات العواصم العالمية. فقد أُعيد تخطيط الشوارع وتوسيعها طولاً وعرضاً، وتمّ شقّ المزيد منها لاستيعاب حركة السير المتزايدة، كما أن أحياء كاملة في المدينة سُوِّيت بالأرض لتنتصب من بين أطلالها مجمعات سكنية ضخمة تعلوها ناطحات سحاب على الطراز الصيني أو الأميركي، تحفّ بها مطاعم الوجبات السريعة العالمية مثل “ماكدونالدز”،و”كي إف سي”،و”برغر كينغ”،و”بيتزا هت”.
لطالما كانت منطقة بيازا (Piazza) القلب النابض للعاصمة الإثيوبية، بشوارعها القديمة المليئة بالحياة، ومحالها التجارية التي تعجّ بالحرفيين والتجار، ومبانيها التي حملت بصمات العصور المختلفة. لكن هذا المشهد تغيّر بسرعة، حيث اجتاحت الجرافات الحيّ، وهُدمت مبانٍ تاريخية، بعضها يعود إلى عهد الإمبراطور مينيليك الثاني. وحتى المباني ذات الطابع المعماري الحديث، التي كانت تميّز العاصمة أيّام عزها في فترة حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي، أُزيلت بالكامل، وتحولت إلى مناطق مفتوحة لاستيعاب مشاريع التطوير العمراني.

الأمر نفسه حلّ بالأزقة الضيّقة المرصوفة بالحجارة في أحياء المدينة القديمة، التي كانت مقصداً للسائحين وملاذاً لعشاق القهوة الإثيوبية العريقة. لقد أزيلت كل تلك الأحياء، ولم يبقَ منها حتى الأطلال، مما أفرغ المدينة من جزء كبير من إرثها المرئي والثقافي.

لم يقتصر التغيير على المباني فحسب، بل امتدّ إلى مراكز الفن والثقافة التي شكّلت جزءاً من هوية المدينة. فمركز "فنديكا" الثقافي الذي كان يوماً ما قبلةً للروائيين والكتاب والشعراء والموسيقيين والرسامين الإثيوبيين من مختلف القوميات والأعمار، وكان يعجّ بالعروض الفنية والسهرات الموسيقية، اختفى تحت وطأة عاصفة الإعمار التي تجتاح أديس أبابا.

ولعلّ القادم هذه الأيام من أديس أبابا، مربط خيل الأفارقة، استشفّ لا محالة أنّ الأمر لم يقتصر فقط على إزالة المعالم التاريخية، بل امتدّ ليشمل حياة السكان أنفسهم. ثمّة مئات العائلات وجدت نفسها مضطرة إلى مغادرة منازلها من دون خطة واضحة لإعادة التوطين. فعمليات الإخلاء جرت بسرعة، وأحياناً بإشعار لا يتجاوز بضعة أيام، مما دفع بالكثيرين إلى العيش في حالة ترقّب وقلق.

أما الذين لم تُهدم منازلهم، فقد تعرضوا لضغوط مالية كبيرة، إذ فرضت عليهم السلطات تحديثات باهظة التكلفة لمطابقة المعايير العمرانية الجديدة للعاصمة. بعض السكان تلقوا أوامر بتغيير النوافذ في بيوتهم إلى زجاج وألومينيوم حديثين، بتكلفة تصل أحياناً إلى 750 دولاراً لكل نافذة، في حين أن متوسط الإيجار الشهري لا يتجاوز الـ 120 دولاراً، مما جعل الامتثال لهذه المتطلّبات أمراً مستحيلاً بالنسبة إلى كثيرين.

في ظل هذه التحولات، يبرز سؤال جوهري: هل يمكن تحقيق التطور من دون محو الهوية التاريخية؟ 
ورداً على ذلك ، يرى المهندسون المعماريون وخبراء التراث أن التحديث لا يعني بالضرورة الهدم، لا سيما هدم  المباني التاريخية، إذ يمكن إعادة تأهيلها ودمجها في التخطيط العمراني الجديد بدلاً من إزالتها بالكامل، وهذا ما يجري العمل به في كثير من الدول.

إن رأسمال مدينة أديس أبابا يكمن في كونها تجمع ما بين التاريخ العريق والتطور الحضري المتسارع، وتحتضن العديد من المعالم البارزة التي تعكس تراثها الثقافي والديني.

اليوم، تواجه أديس أبابا تحدّياً كبيراً؛ فهي إما أن تجد طريقاً للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على هويتها الثقافية، وإما أن تتحوّل إلى مدينة جديدة بالكامل، مجرّدة من روحها وتاريخها، ومستسلمة لموجة العولمة الطاغية وما تحمله معها من تلوث بصري وثقافي وبيئي يفتك بالمجتمعات، والبشر، والحجر .
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد