من قاسيون يكتب شاربو الشاي تاريخك يا وطني. كان ما لم يكن من عادة قاسيون أن يطلّ عليك يا وطني حفدة الكتلة الوطنية وبناة الاستقلال التاريخيين. خمسون عاماً وعيون قاسيون تشرب ماءها طيورُ الظلام، وأبابيل القومية التي ترمي الوطن بسجيل قدسية مزيفة. لم يكتفِ البعثيون بفرض شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وبنادقهم القومية والعلمانية مكتومة الصوت، لا لمباغتة مغتصبي الجولان، بل ليحرسوا طريق القدس من حماسة رعاع طلائع البعث الموهومين بشعاراتهم، أن يروا الحقيقة باتجاه حاسم نحو القدس. كتموا صوت المعركة برمتها، وغيروا اتجاه الجبهة نحو الشعب. خمسون عاماً وتسعة أعشار ميزانية سوريا مخصصة لجيش عقائدي عقيدته حراسة ظل القائد. وفي عشر سنوات أفرغوا كل مستودعاته على الشعب الذي خرج يمزق أقنعة تجار القومية والصمود والمقاومة.
بقي قاسيون معصوب العينين، لكي لا يرى الصواريخ الاستراتيجية تدك جوامع حمص ودور أطفالها ونسائها، وتزرع مساحة الوطن بالألغام العنقودية، وتمطر خيام المشردين على حدود تركيا بالبراميل المتفجرة.
لم يعد أحد ممن تربى في حظيرة البعث مكرهاً أو بطلاً يشك في أن عناقيد القنابل لا عنبها للقدس ولا حصرمها للواء إسكندرون، والمظلومية لا تمهد لنيران النصر الصديقة. للمظلومية أبابيلها التي تحمل حرمة المظلومين ولا تختار جناح الطائر الذي يحملها. وقد يكون جناح ظالم على ظالم. تلك هي سنة دحر الظلم، فالفعل من جنسه أحياناً، والحجاج ضرورة أحايين.
جاء النصر وفرح به السوريون. وقاسيون مملوء العينين بالدمع، فلم ينظر بعينيه منظراً، كأن شرب شاي المنتصرين من قمة قاسيون فتح تاريخاً جديداً وكشف أقنعة نصاعة وجوه قادة المعركة وإشراق جمهوريتهم التي ينشدون. وكما هو حال الثورات المنتصرة، يكثر رماة أحد، والبحث عن حصتهم من الغنائم، مما يفسح الفرصة للأعداء أن يلتفوا.
كانت ثورة سوريا عفوية، ثورة مظلوميات شعب أسير لسلطة مخالبها أطول من ظلها، شعب مسلوب الحلم بالعدالة الاجتماعية والعيش في ظل مؤسسات إدارية تمارس في حدها الأدنى من تقاليد الأنظمة، إنما أفسدت الملح فكيف بالجرح. ولم يكن في تفكير الأسد السارق والوارث التخلص من ذهنية العصابة في ملكية الدولة، فما ترك للشعب أي فرصة للنظر إلى نفسه على أنه بشر سوي.
طالت المعركة، وطال التنكيل الذي بدد من نفوس السوريين كل أمل بالخلاص. وحين رفعت رايات النصر، لم ينس السوريون الثمن الباهظ الذي دفعوه مضاعف التضعيف، وفي ظل هذه الراية تذكروا أحلامهم بدولة تحرّم على قيادتها الدكتاتورية الثورية. وتذكروا أنه لا نموذج بهيجاً في ذاكرتهم إلا نموذج ما بعد الاستقلال وما قبل البعث. فتخيلوا تدفق الأحزاب بالتنافس والتصارع، وتحركت في نفوسهم شهوة إعادة نموذج تعدد القوى الحزبية وتنوع اتجاهاتها. وأن يسير في ظلالهم من لا يفقه الانتصار إلا بشرح رماة أحد. لكن شاربي شاي النصر على سفح قاسيون لم يتركوا لهم كأساً فارغة. وكان لا بد للمنهزمين ورعاتهم الإقليميين أن يقيموا الحداد التاريخي، فقوارش الفرس لا يتجرع كأس الهزيمة وفي الأرض جمرة نار تشتعل. والقيصر الجديد لم يكن يتخيل أن يثلم سيف له بيد حليف، ولم يقدّر الحليفان مع مَن يشاطرهم الحلم بإخفاق الثورات إلا أن يرددوا: اليوم خمرٌ وغداً جمرٌ، وما بعد غد من أمر، وإلا ستبيض البومة في لحية القيصر وموقد كسرى.
سال لعاب المنهزمين للبحث عن حصان طروادة للكر على المنتصرين، على أن يكون الحصان إيرانياً، والسرج روسياً، وسائسه مدعوماً من أصدقاء حظيرة فلول النظام. وثمة ما يغري الثنائي المهزوم بأطياف قابلة للاصطفاف من أقليات، ومهزومي المصالح، والمفلسين من سلة النصر.
بدأ الكرنفال بتحرك شهية اليسار التقليدي بقيادة ممثليه التقليديين، والعسكر المنشق، والأقليات المترددة أو المقاتلة كالأكراد، ومن يبحث عن أي معارض للدولة الجديدة.
وبالرغم من سهولة بناء قدرات هذا التيار المنوط به الانقضاض على الدولة الجديدة، إلا أن تياراً منضوياً تحت لواء الثورة في صورتها الأولى، وقد خسر حصته في الدولة الجديدة، سيكون اليسار الجديد المقنع، وهو تيار الإخوان المسلمين. فهو يدرك في العمق قوة التيار الجماهيري المؤيد للحركات الإسلامية، ولا سيما بعد أن جعله القوميون والعلمانيون يكفر بكل حزب يتزيا بعباءة القومية وكرافة العلمانية.
والحقيقة أن تيار الإخوان، بعد أن أخفق في ثورات مصر وتونس، استعاد أنفاسه بتبني الحليف التركي أبوة نصر الثورة السورية. وثمة ما يقرب حلم هذا التيار بامتطاء موجة نصر الإسلام السياسي بصورة هيئة التحرير، وهي تقف على أقدام من صناعة الإسلام السياسي التركي. وثمة قوى تاريخية وتنظيرية للإخوان أكثر عراقة في التجارب السياسية، ومناورات الحراك الشعبي الذي يتردد في متابعة السير في ظل قافلة الحكومة الجديدة في سوريا واتساع الريبة الإقليمية من أصولها ومآلاتها. وتلك فرصة تدغدغ أحلام الإخوان، وتدفعهم إلى التقنع بمسميات جديدة. إذ إن تأصيل مبادئهم الإسلامية السياسية يحمل من المرونة ما يجعلهم يطوعون شكلاً من أشكال اليسار السياسي الإسلامي مقارنة مع التيارات التي صبغت بسمات اليمين.
الأيام دول، والجمهورية الوليدة في سباق مع الزمن لتمكين نفسها في نسيج الشعب السوري قبل أن ينقض غزلها الأصدقاء أو الأعداء. فهم حلفاء شهوة السلطة ضد المنتصر الذي أخرجهم كما يقال من المولد بلا حُمُّص، والشاي على قاسيون يطيب بعد الحُمّص، وسوريا وليدة وشمعة عيونها ترتجف وسط ريح عاصفة بكل اتجاه.