أليس غريباً أن الواحد منّا لا يعرف ما إذا كان في العرب أهل دراسات مستقبلية أم لا؟ إن لم يكن لهم وجود فلماذا، وما هي الأسباب؟ وإن كانوا بيننا، فلماذا اختاروا الخفاء، وهم ليسوا من الجن، أم هم آثروا خلوات الخانقاهات كالزهّاد والنسّاك؟ في الحقيقة، معاذ الله أن نجرؤ على إثقال كواهلهم بما لا طاقة لهم عليه من شؤون المستقبل، فهذه العظائم من الأمور يحمل أعباءها عنّا كل مفترٍ من أصحاب التنجيم. كل المأمول هو أسهل من حشو المعمول، أن يتكرّموا بآرائهم في الحاضر العربي، فحسبنا الساعة التي نحن فيها.
لا بدّ من الرجوع إلى الخلف قليلاً، ففي النصف الثاني من القرن العشرين، برزت الأحزاب بروزاً لا تنقصه علامات الاستفهام والتعجب، مع نزعات شمولية. ها أنت وضعت إصبع الملح على الجرح.
كان ذلك إيذاناً صريحاً يقول لنخب الفكر والثقافة: لا تشغلي البال بشأن الشعوب، نحن نفكر عنك و ندبّر، والعصا لمن عصى. كان على من أصرّ على ممارسة شغب الفكر خارج الحزب، أن يقصد أرض الله الواسعة فيهاجر فيها، مثل فرنسا، بريطانيا، ألمانيا...
أغلب الظن أن القوى العالمية لم تكن تحلم بهدية أثمن تهدى إليها، وبخدمات أجلّ تُسدى إليها. الأحزاب العربية صارت هي مصنع الأفكار وهي مصدر القوانين، بالتالي فإن التحرش ببنات فكرها جزاؤه عند أبي الطيب: «ديار اللواتي دارهنّ عزيزةٌ.. بطول القنا يُحفظن لا بالتمائمِ». بيت القصيد هنا هو أن قوة الأحزاب الفردية في بلدانها، أحدثت تشتتاً وتفرقاً بلا حدود. حتى عندما كانت المصائب تجمع الأشقاء، كانت الأيدي الخفية تسارع إلى إحماء الوطيس، وكانت القوى حمّالة الحطب تنجح بصبّ الزيت والفحم فإن لم يكن فقشّ، وقس على ذلك. تلك أعز أماني المتربصين: أحزاب متشاجرة، وشعوب بلا نخب مفكرة، والمخططات حبالها على الجرّارات.
لا تقل نسي القلم البحوث المستقبلية، وإلاّ فإنك أنت نسيت أن الأحزاب هي صاحبة الفكر، فمقبل السنين جزء من مشمولاتها الشمولية. أمّا الأدمغة فهي عندها آلات وظيفية، وأما في مستوى الحد الأدنى فيجب أن ينحصر دائماً في أن الغد مشرق بسّام من دون كيف ولماذا.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفقديّة: لماذا لا يذهب الناس إلى قسم المفقودات في منظمتهم ويسألون: أين الأمّة العربية الواحدة؟ وأين كتابها الأخضر؟