: آخر تحديث

عضّة الأفعى وسمّ الشاعر

17
18
22

في الأخبار الخفيفة الطريفة أمس تعّرض رجل في الخامسة والثلاثين في إحدى الولايات الهندية للدغة ثعبان وهو نائم في أحد معسكرات عمال السكك الحديدية، وبدوره، وفي ردّة فعل سريعة أخذ الرجل يعض الثعبان مرات عديدة إلى أن قتله مدفوعاً، أي الرجل، بخرافة شعبية تقول إن عضّ الثعبان يُحَيّد سمّه.

الخبر هنا، ليس الثعبان الذي لدغ الرجل، بل الرجل الذي عض الثعبان، غير أن ملح هذا الخبر الصغير هو فعلاً تلك الخرافة التي كان يعتقد بها الرجل الذي هاجمه الثعبان، ففي اللحظة التي شعر فيها أنه على وشك الموت استعان بسرعة بذاكرته، وهي هنا ذاكرة شعبية تحمل معتقداً شعبياً لا أكثر ولا أقل، أي تحمل قوة ثقافية مخزونة في العقل.

وبعيداً عن استعمال الموروث الشعبي والمعتقدي في الحياة وفي الثقافة من جانب أناس عاديين قد لا يكون الكثير منهم قد عرف القراءة والكتابة، ألا تذكرك قصة الهندي هذا الذي لدغه الثعبان بذاكرة ثقافية أخرى؟ على مستوى شخصي، ذكّرتني هذه القصة الخبرية الصغيرة ببيت شعر للمتنبي يتحدث فيه أيضاً عن السم ولدغة الأفعى. يقول المتنبي:

يعاندني حتفي كأنّيَ حتفُه وتلدغني الأفعى فيقتلها سُمّي

والبيت، بالطبع، يأتي في سياق شعر المتنبي الذي محوره الكبرياء والاعتزاز المبالغ فيه بالنفس وبالذات البشرية المتضخمة كما يقولون، ولكن، وفي حقيقة الأمر ها هو إنسان بشري آدمي يقتل ثعباناً، حين عضه عدة مرات، وبالفعل حيّد سم الثعبان الذي قتل في الحال.

إن الخيال الشعري الذي لم يصدقه أحد حين قال المتنبي إن سمّه يقتل الأفعى، قد تحول هنا في قصة الشاب الهندي إلى حقيقة، وإن كانت هذه الحقيقة منقوصة، إذ لا يُعقل أن يحمل الشاب سماً في دمه أو في فمه، وكذلك المتنبي، لم يكن آدمياً أو إنسياً سمّياً إلا في الكناية الشعرية، والمجاز الشعري، المجاز المتخيل وحده الذي يجعل منه قادراً على قتل أفعى إذا لدغته. ربما أردت القول من وراء «تضخيم» هذا الخبر الطريف العابر إن الخيال الشعري قد يتحقق على أرض الواقع البشري، ويتحوّل المجاز اللغوي إلى حادثة مادّية، مرئية، وملموسة وَمُعَيّنة تماماً في كل الحواس الحيوية البشر.

قبل سنوات، تناقلت وسائل الأنباء خبراً صغيراً عابراً مثل خبر الرجل الهندي والثعبان مفاده أن مطراً أسود تساقط على إحدى المقاطعات في إحدى البلدان الآسيوية، وفي مكان آخر، كان أحد الشعراء، قبل هذا الخبر، يرسم صورة شعرية في قصيدة تتحدث عن ماء أسود يهطل من غيم رمادي.

بقي أن أذكّرك فقط للدقة أن المتنبي لم يعضّ الأفعى، بل الأفعى لدغته، فقتلها سمّ الشاعر الذي قتل بدوره على يد قاطع طريق أسوأ من الأفعى والثعبان.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد