فاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجميع حين أعلن حلَّ الجمعية الوطنية الفرنسية وتنظيم انتخابات تشريعية. جاء ذلك عقب الانتصار التاريخي لـ«التجمع الوطني» (أقصى اليمين) في الانتخابات الأوروبية الأخيرة. المفارقة الكبرى هي أن حزباً ذا توجه سيادي مناهض لأوروبا مثل «التجمع الوطني» هو من يتبوأ قائمة الأحزاب التي ستمثل فرنسا في البرلمان الأوربي.
لماذا قام ماكرون بحل الجمعية الوطنية؟ يقول ماكرون نفسه إن تصويت 50 في المائة من الفرنسيين في الانتخابات الأوروبية لصالح الأحزاب المتطرفة على اليسار وعلى اليمين «لا يمكن أن يتركه غير مبالٍ كأن شيئاً لم يقع». لهذا فهو يحتاج إلى «توضيح» من الفرنسيين حول أي حكومة يريدونها (لاديبيش، «انتخابات 2024: لماذا حل ماكرون الجمعية؟ الرؤيا تتضح أسبوعين بعد القرار» 22 يونيو/ حزيران 2024).
وربما الهدف «الأذكى» هو أن ماكرون يريد توريط أقصى اليمين (المنعدم التجربة) في تدبير الشأن العمومي والنقص من جاذبيته قبل انتخابات 2027. وهذا وارد جداً، خصوصاً، وحسب مقال تحليلي نشرته جريدة «لوموند» يوم 18 يونيو حول برنامج «التجمع الوطني»، فإن الإجراءات التي يقترحها جوردان بارديلا، زعيم أقصى اليمين في الانتخابات، حول تخفيض القيمة المضافة على الطاقة من 20 في المائة إلى 5.5 في المائة لخفض فواتير الكهرباء، وتمويل ذلك عبر تخفيض مساهمة فرنسا في الميزانية الأوروبية، ستجعل فرنسا في صراع مباشر مع بروكسل، وستقلل من دور فرنسا الريادي في أوروبا، مما سيدفع ماكرن إلى رفع «الفيتو» في وجهه.
نية «التجمع الوطني» معاقبة آباء الأحداث (خصوصاً من المهاجرين) الذين يرتكبون جرائم هي إجراء منافٍ للدستور حسب المقال نفسه، لأن مسؤولية الآباء عن أبنائهم واردة، لكن العقاب الجماعي في حالة ارتكاب جرائم من طرف الأحداث أمر غير مقبول، حسب الدستور. ربما الإجراء الوحيد الذي يبدو مقبولاً (حسب المقال نفسه) هو الترخيص للأطباء المتقاعدين الجمع بين التقاعد وراتب مؤدى مقابل أدائهم للخدمة في مناطق توجد فيها خدمات صحية متدنية.
يقول بارديلا إنه يريد أغلبية مريحة للتمكن من تمرير الميزانية في الجمعية العامة دون اللجوء إلى الفصل 49.3 من الدستور (المرجع نفسه). أضف إلى هذا أن بارديلا يدعو إلى القيام بافتحاص شامل للمالية العمومية والتقرير آنذاك فيما إذا كانت الحكومة تتوفر على موارد لتنفيذ سياساتها أم لا. كل هذا يعني أن «التجمع الوطني» واعٍ بالفخ المحتمل الذي ينصبه له ماكرون ويتخذ جميع الاحتياطات لتبرئة ذمته قبل الساعة.
ما يجعل أهداف ماكرون معقدة هو تشتت الحقل السياسي المعارض لزحف أقصى اليمين، وعدم وجود حلف قوي عريض مناهض لليمين المتطرف، كما كان يقع من قبل. على مستوى اليسار، تم تكوين جبهة شعبية تضم شتات اليسار ولكن أحد أقطاب هذا اليسار، ميلونشون، يعدّ بارديلا فقط «نسخة سيئة من ماكرون»؛ بينما يعدّ الماكرونيون «فرنسا المتمردة» وزعيمها ميلونشون نزعة متطرفة على اليسار لا تختلف في تطرفها عن اليمين المتطرف (لوموند، «الماكرونيون والمتمردون: التتفيه المزدوَج للتجمع الوطني»، 18 يونيو، 2018)، وهو ما يعني أن الفرقاء المناوئين للتجمع يخدمون أجندته بشكل مباشر حين يقارن بعضهم بعضاً به.
على اليمين، ينقسم الجمهوريون بين إريك سيوتي زعيمهم الذي يقول بضرورة التحالف مع أقصى اليمين، ومن لا يزال يحلم بحلف جمهوري قوي يعارض أقصى اليمين وأفكاره. وسيسهم تشتت ما كان يسمى الحلف الجمهوري في فوز، وربما اكتساح «التجمع الوطني» للساحة السياسية في فرنسا. واستطلاعات الرأي تعطيه سبْقاً مريحاً على منافسيه بـ35 في المائة من نوايا التصويت، بينما ستحصل الجبهة الشعبية (تحالف اليسار) على 29 في المائة، وحزب النهضة الرئاسي (وسط ليبرالي) على 21 في المائة (استطلاعات ت.ف.1، 21 يونيو 2021).
هل ستتحالف الجبهة الشعبية والنهضة الماكروني وجزء من الجمهوريين في الدور الثاني يوم السابع من يوليو (تموز)، لدرء خطر التجمع المقبل؟ هذا احتمال وارد لكنه غير مؤكد، لأن نيران الماكرونيين مصوبة حالياً على جزء من الجبهة الشعبية، خصوصاً «فرنسا المتمردة» بقيادة ميلونشون، وهو ما سيجعل أي تحالف بعد الثلاثين من يونيو صعباً.
مهما حصل، ففرنسا بعد الانتخابات مرشحة لأن تصير أزماتها السياسية أكثر تعقيداً، وأن الوضوح الذي يريده الرئيس ماكرون لن يكون في الموعد. السيناريوهات هي حكومة بقيادة أقصى اليمين بمساندة جزء من الجمهوريين، أو تحالف بين الجبهة الشعبية والماكرونيين، أو حكم أقلية ماكرونية مسانَدة من القوى السياسية حسب نوعية القوانين واللجوء للفصل 49،3 لتمرير قانون المالية كل سنة في انتظار 2027. ما هو مؤكد أن هذه الانتخابات لن تُخرِج فرنسا من نفق الأزمة السياسية التي تعيشها منذ سنوات؛ بل لربما تزيد من تفاقم هذه الأزمة واستفحالها.